تركيا: لنغلق صفحة الانقلابات العسكرية

التاريخ يُعيد نفسه، فكلما حازت هذه القوات غير السياسية سلطة أكبر من اللازم، أساءت استخدامها، ومحاولة الانقلاب الأخيرة خير مثال على ذلك، تكشف هذه الصورة أيضاً عن أن عدم تسوية النزاعات السياسية الرئيسية يوفر أرضاً خصبة للجماعات للاستحواذ على نفوذ ضخم من خلال وسائل غير ديمقراطية.

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/20 الساعة 08:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/20 الساعة 08:02 بتوقيت غرينتش

تكافح تركيا، منذ محاولة الانقلاب الفاشلة، للتعامل مع الآثار المترتبة على تلك الصدمة، بينما يغمرها الحزن لفقدان أكثر من 250 شخصاً كما ترعى أكثر من 2000 مصاب، على الرغم من ذلك، أظهرت البلاد المزيد من التماسك، من خلال مظاهر الوحدة التي شملت تقريباً جميع الطوائف والطبقات السياسية والاجتماعية.

ورفضت جميع الطبقات السياسية على اختلاف توجهاتها محاولة الانقلاب التي قامت بها جماعة أتباع غولن الفاسدة -التي أعلنتها تركيا منظمة إرهابية منذ عام 2014- واحتفلت الأمة بشعور امتلاكها للديمقراطية التركية، والتي أسهمت في فشل محاولة الانقلاب.

كل هذه الأمور مُشجعة، إحساس الأمة بالامتلاك ونضج الطبقة السياسية عزز الديمقراطية التركية.

المركزية الشديدة

هذه شروط ضرورية، ولكنها ليست كافية لطي صفحة عصر الانقلابات، وإنهاء الأنشطة المشبوهة وغير القانونية من العناصر المارقة داخل الدولة، هناك حاجة للمزيد.

هناك ثلاثة تدابير لازمة على وجه الخصوص لتحقيق مستقبل سياسي خالٍ من الانقلابات في البلاد، ولتثبيط أي مجموعة فاسدة تسعى بدايةً للسيطرة على مؤسسات الدولة، ثم إساءة استخدام القوة التي اكتسبتها من خلال هذه الهيمنة لصالح أهداف محدودة خاصة بالمجموعة.

هيكلياً، تُيسر الطبيعة شديدة المركزية للدولة التركية على الراغبين في تدبير الانقلاب تحقيق أهدافهم، كما يمكن لعناصر فاسدة منظمة تنظيماً جيداً حيازة مستوى غير متناسب من النفوذ.

أيديولوجياً، تخلق الدولة التركية شديدة المركزية والموجِّهة أيديولوجياً حوافز للمجموعات الاجتماعية السياسية أو الدينية للبحث عن التواجد بداخلها والتأثير عليها من خلال المؤسسات العامة وأجهزة الدولة، من أجل إنفاذ رؤاهم الاجتماعية والسياسية لشكل الدولة والمجتمع بأسره.

سياسياً – أو من جهة الثقافة السياسية- فقد مهد نقص التفاعل السياسي والحوار وآليات حل المشاكل بين الأحزاب الحاكمة وجماعات المعارضة الطريق لبعض الكيانات الحصول على موطئ قدم غير ديمقراطي في النظام السياسي واكتساب نفوذ سياسي دوماً ما يُساء استخدامه.

يُنشئ النظام الإداري التركي شديد المركزية حافزاً للجماعات لزيادة وجودها داخل جهاز الدولة أولاً، ثم حافزاً للهيمنة عليها.

في معظم مؤشرات قياس مدى المركزية، تقع تركيا أعلى بكثير من متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. على سبيل المثال، تجمع الحكومة المركزية ما يقرب من 70% من إجمالي الإيرادات، أي أكثر بكثير من متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 58% فقط.

الأمر اللافت للنظر أكثر، هو عمل 85% من موظفي القطاع العام لصالح الحكومة المركزية في تركيا، في حين يعمل 15% فقط في الإدارات المحلية، هذه هى أعلى نسبة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

نفوذ غير متناسب

في نظام شديد المركزية، من الأسهل نسبياً لمجموعات معينة التمتع بنفوذ غير متناسب مع حجمها بداخل النظام.

بمجرد السيطرة على بعض المواقع الرئيسية في بعض المؤسسات الرئيسية، بإمكانك إظهار تأثير غير متكافئ مع حجمك وحجم مؤيديك الفعلي، وهي النقطة التي تؤيدها قضية شبكة أتباع جماعة غولن وأفعالها داخل أجهزة الدولة.

وكنتيجة طبيعية، فإن اللامركزية بطبيعتها ستروض طموح الجماعات الساعية للتسلل والهيمنة على النظام، بسبب زيادة وتعدد المؤسسات، وتوزيعها الجغرافي والإداري، لن تتركز قوة الدولة في المركز، بل ستتوزع بدلاً من ذلك.

علاوة على ذلك، فهذه الدولة شديدة المركزية فعالة للغاية في محاولة التأثير على الهوية والأيديولوجيا لمجتمعها من خلال الهندسة الاجتماعية، لفترة طويلة، شجعت الدولة التركية هوية علمانية قومية مفضلة ذات توجه غربي، في حين حاصرت الهوية الكردية والإسلامية.

اعتقد أصحاب الهوية المُحارَبة أن الطريقة الوحيدة لتغيير هذا كان عن طريق الوصول إلى مقاليد السلطة داخل بنية الدولة، هذا الاعتقاد -بجانب طبيعة الدولة- منح جهاز الدولة عامل جذب قوي لأي مجموعة تطمح في التأثير على الحياة العامة.

لذلك، كانت شبكة جماعة غولن -جزئياً- نتاجاً للدولة الكمالية الاستبدادية شديدة المركزية، وينبغي على الحكومة أن تأخذ درساً من هذه التجربة، وتسعى لجعل الدولة عمياء تجاه الهويات المختلفة وتبقى محايدة أيديولوجياً.

الدروس المستفادة

ثبت أن التفاعل والتعاون بين الأحزاب السياسية والنخب كان عاملاً حاسماً في هزيمة محاولة الانقلاب، وهو الأمر الذي يوضح لنا الطريق اللازم لاستجلاء التحديات الرئيسية الأخرى التي تواجه تركيا.

سواء أكان هذا بدافع الضرورة أو عن طريق الاختيار، فكلما اختارت حكومات تركيا الحالية والسابقة شريكاً للتعامل مع التحديات الكبرى أو الأزمات الوشيكة، تختار شريكاً من خارج البرلمان والمجال السياسي.

على سبيل المثال، لترويض الجيش المتدخل في السياسة والمحتمل انقلابه دوماً، شعر حزب العدالة والتنمية بوجوب تعاونه مع جماعة أتباع غولن -وخاصة بين عامَي 2007 و2010- عندما كان الصراع على السلطة مع المؤسسة العسكرية في ذروته.

ونتيجة لذلك، توسعت جماعة غولن كثيراً في وجودها داخل بنية الدولة، ممهدين بذلك الأرض لأنشطتهم المستقبلية المشبوهة غير القانونية.

وبالمثل، شهد الصراع مع حزب العمال الكردستاني (بي كا كا) منذ يوليو/تموز عام 2015 هيمنة العسكر على بعض السلطات المدنية، لذا، انتهى تعاون الحكومة المدنية مع قوات غير سياسية إلى تقوية هذه القوات.

التاريخ يُعيد نفسه، فكلما حازت هذه القوات غير السياسية سلطة أكبر من اللازم، أساءت استخدامها، ومحاولة الانقلاب الأخيرة خير مثال على ذلك، تكشف هذه الصورة أيضاً عن أن عدم تسوية النزاعات السياسية الرئيسية يوفر أرضاً خصبة للجماعات للاستحواذ على نفوذ ضخم من خلال وسائل غير ديمقراطية.

علاوة على ذلك، فغياب الحوار السياسي الفعال والتعاون بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة مهد الطريق للجماعات كبديل غير خاضع للمساءلة لتظهر وتملأ الفراغ.

الدرس الذي ينبغي أن يؤخذ من ذلك هو أنه على الحكومة امتلاك خطة مدروسة بعناية للتعامل مع القضايا الكبرى في البلاد.

أخيراً يجب على الحكومة، خلال مساعيها، العمل للحصول على مساعدة المعارضة، مثل هذا التواصل بين الحكومة والمعارضة لن يترك ثغرات أو فراغات في النظام السياسي لعناصر فاسدة لتملأها وتُسيء استغلالها.

– هذا الموضوع مترجم عن موقع منتدى الشرق Sharq Forum، للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد