في بداية سبتمبر/أيلول 2016 عُقدت ورشة عمل في العاصمة الأميركية واشنطن، حضرها ممثلو الكثير من القوى التي تصف نفسها بالثورية، بهدف ما قالوا إنه لمّ شمل الجميع في مواجهة حكم العسكر في مصر وكسر الانقلاب، والاتفاق على مبادئ توحد جميع القوى بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم.
وكان من بين الحضور رئيس مركز الحوار المصري الأميركي عبد الموجود الدرديري المتحدث باسم لجنة العلاقات الخارجية بحزب الحرية والعدالة، ومنسقة 6 أبريل سوسن غريب، والناشطة سوسن جاد، وشارك عالم الفضاء عصام حجي بمداخلة، كما كان حاضراً فريق عمل يُطلق على نفسه اسم (الدستور الموازي).
فيما كان موقع عربي 21 القريب من إحدى جبهتَي جماعة الإخوان المسلمين (جبهة عزت وجبهة منتصر) أول من نشر ما أسفر عنه هذا اللقاء يوم 13 سبتمبر/أيلول، والذي جاء في صورة توصيات عشر، حملت الوصايا شعار "مبادرة مصر.. وطن للجميع"، ومن ضمن ما جاء فيها:
(آلية ديمقراطية تضمن الحماية من ديكتاتورية الأغلبية أو الأقلية – الشرعية من الشعب وللشعب وحده – حرية ممارسة الاعتقاد دون أية قيود – الحقوق والحريات على قاعدة الإعلانات والمواثيق العالمية لحقوق الإنسان – الدولة لا هوية ولا مرجعية لها إلا مدنيتها – لا يتدخل الدين في الدولة ولا تتدخل الدولة في الدين).
وجاء في عربي 21 أن تلك التوصيات التي صدرت عن ورشة "واشنطن"، ستتم دراستها مع توصيات ورش أخرى في تركيا وقطر وأوروبا؛ من أجل صياغة ورقة عمل سيتم الإعلان عنها رسمياً خلال الأيام القليلة المقبلة.
وكان أول من نشر هذه المبادئ عبر وسائل التواصل الاجتماعي فريق عمل الدستور الموازي عبر صفحتهم على موقع فيسبوك يوم 8 سبتمبر، وقال الفريق إن قرارهم بالمشاركة في هذه الورشة تم (برغم عزوف بعض القوى التي لها وزنها السياسي والاجتماعي والثقافي كأقباط مصر، أو أطراف علمانية، أو البهائيين والشيعة، على سبيل المثال لا الحصر)، وقالوا إن هذا بسبب أن هذه القوى (ترى استحالة التعامل مع الإسلاميين على خلفية أحداث ما بعد انتخاب محمد مرسي).
وبدا من كلامهم أنهم جاءوا على أنفسهم مُجبرين للجلوس مع أطرافٍ كانت في هذا الاجتماع محل امتحان واختبار؛ حيث قالوا: (لا نريد إصدار الأحكام النهائية بأن قوة أو قوى ما – كما هو معلوم لدى الجميع – ما زالت لا تريد الاعتراف بأن مصر دولة مدنية يجب فيها فصل الدين عن الدولة بشكل صريح ودون تحايل)، فهل نجح الإسلاميون "الحاضرون" في اختبار واشنطن؟
يبدو أنهم نجحوا فقد تضمن نص الخبر المنشور على موقع عربي 21 المُقرب من إحدى جبهتَي جماعة الإخوان عبارة: (سيتم الإعلان عن تلك التوصيات رسمياً خلال الأيام المقبلة)، فها هي توصيات تُعلن في سفور وبجاحة بالغة علمانية الدولة، وتنمّرها وانقلابها على الهوية الإسلامية، والتزامها الكامل بإعلانات ومواثيق حقوق الإنسان التي تُخالف الإسلام في جزءٍ منها.
ولكن! القائمون على هذه المبادرة نفوا يوم 15 سبتمبر اعتماد البند والتوصية الخاصة بفصل الدين عن الدولة (العلمانية)، وقالوا إنه تم تغييره ببند توافقي سوف يتم الإعلان عنه رسمياً، وقال فريق المبادرة إن "من قام بتسريب هذه المعلومات يهدف إلى إجهاض أي نوع من الاصطفاف أو التوافق بين القوى الوطنية"، وكان أول من نشر هذا الخبر إعلامياً هو موقع عربي 21 المُقرب من إحدى جبهتي الإخوان المسلمين المنقسمة حالياً، كما أعلنت جبهة محمود عزت في جماعة الإخوان أنها ليست جزءاً من هذه المبادرة ولم تُشارك في اجتماعات واشنطن، في الوقت نفسه أفاد د.عمرو دراج (جبهة محمد منتصر) بأنهم لا يعلمون عن هذه المبادرة شيئاً ولا يدعمونها، فمن إذاً كان يُمثل القيادي الإخواني عبد الموجود الدرديري في هذا الاجتماع؟
ما تم هو هذه الورشة أو ذاك اللقاء بواشنطن في مطلع سبتمبر، أسفر عن مبادئ العلمانية التي أتت في التوصيات، ثم تراجع ممثل الإخوان عن القبول بها، فأعلن فريق الدستور الموازي انسحابه من هذه الورشة وما يُسفر عنها، مُضمناً بيان الانسحاب على صفحته بموقع فيسبوك يوم 8 سبتمبر التوصيات أو نص المبادرة، بعدها بأيام وفي يوم 13 سبتمبر نشر موقع عربي 21 موافقة ممثل الإخوان عليها مُجدداً، بصيغتها الأولية التي تقول بعلمانية الدولة، نتج عن هذا هجوم شعبي كبير، فظهر الفريقان في الإخوان يتبرآن من المبادرة وما فيها، وكأن الدرديري القيادي الإخواني كان يُمثل نفسه!
فهل توجد مبادرة حقاً؟ وهل تريد المبادرة فرض العلمانية فوق رقاب الشعب؟ أم أن هناك سعياً لتفجيرها قبل أن تُعلن؟
والآن هل استشعرت كم البؤس في اللحظة التي نعيشها؟ هل ترى معي حجم الإفلاس الذي أجبر ممثلاً عن أكبر جماعة إسلامية في العالم أن يوافق بشكل مبدئي على هذا العار، ثم ما لبث أن تراجع عن موافقته على هذه المبادئ الفجة، ثم يُثار لغط كبير باستخدام أدوات إعلامية تقول إنها تدعم الثورة، فيما بدا أنه ضرب تحت الأحزمة بين جبهتَي الإخوان.
هذا كله حيث لا يوجد طرف واحد قادر على أن يكون واضحاً مُحدداً متسقاً مع قيم الثورة وثوابت الشعب، فجماعة ملء السمع والبصر وقيادات شعبية وعمل جبّار طوال عقود، أصبحت تعبيراً حياً عن مرارة البؤس الذي نعيشه، فطرف يجري وراء مجموعات وشخصيات مغمورة تريد سحق هوية الشعب، وطرف آخر يتفنن في ضرب الطرف الآخر دون أن يطرح حلاً واقعياً، فنكون أمام طرف ينتظر رضا القوى الوطنية، وطرف يبدو أنه ينتظر رضا المؤسسة العسكرية (سوار الذهب المصري)، فيا للعجب!!
إن شباب الإخوان الممزق بين الفريقين، والثورة التي رهنت نفسها لجماعة يحوطها البؤس من كل مكان، هذا الشباب وتلكم الثورة عليهما أن يفضّا أيديهم من أوهام من يُريدون أن يتدثروا بالشراكة الوطنية والتوافق على حساب الإسلام وثوابت الشعب، وكذلك أوهام من يُريدون أن تظل المعركة معركة (جيش وإخوان)، وليس شعباً وأمة في مواجهة الطغيان، متدثرين بالإرادة الشعبية على حساب الثورة ومسارها الذي لا يُمكن أن يُخنق ويُقيّد وتكتم أنفاسه في مسالك ومضائق قديمة نسفت نفسها، فنعم للشراكة للوطنية ونعم للإرادة الشعبية ولكن نعم أيضاً للإسلام ونعم للثورة، ولا للبؤس ولا لواشنطن!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.