في مدينة روترام الهولندية الجميلة ذات المساحة الصغيرة اقترح بعض سكانها ردم جزء من شواطئها على البحر لتوفير حدائق ومناطق ترفيهية للسكان، لكن البعض عارض الفكرة؛ لأنها تهدد البيئة البحرية الرائعة والمطلوب الحفاظ عليها، هذا الجدل -لا أذكر الآن هل شاهدته في وثائقي أم حواري منذ سنوات- كان مثار شد وجذب من كل فريق مؤيد لفكرته ورأيه.
من يعيش في بلاد نامية تعاني من كل المشكلات البيئية والخدمية والاقتصادية والسياسية وغيرها ربما يرى في مثل هذا الجدل نتاج فراغ عند أناس مرفهة فوق الحد، فكيف يقبل بمثل جدل عن تغيير في بيئة بحرية محلية أو توفير حدائق وهو يعيش على هامش العالم.
هولندا الملكية الدستورية وشعبها الذي يعيش استقراراً سياسياً واقتصادياً في تقدم مستمر، وجل الخلاف بين الأحزاب السياسية الهولندية حول قضايا المهاجرين والمجنسين ومنحهم ميزات من عدمه أو الارتقاء بالخدمات التي تقدمها الدولة لمواطنيها، فهؤلاء لا يختلفون على نظام الحكم ولا على النظام السياسي ولا على قوانينهم الرئيسية ولا على مسؤولية الحكومة تجاه الشعب الهولندي.. كل هذه أمور محسومة سلفاً ويبقى فقط التنافس السياسي بين من يخفض الضرائب أو يوفر المزيد من فرص العمل أو يعارض تجنيس المهاجرين.
صدمة الجدل تزول بعد معرفة بسيطة عن هولندا ويتضح أن لهم الحق في أن يختلفوا على ما نراه بسائط الأمور طالما أنهم حسموا أمور حكمهم واقتصادهم، وهكذا الشعوب التي حسمت خياراتها بالاستقرار السياسي والاقتصادي واحترام المواطن وتوفير حياة رفاهية له.
تلك الفكرة تقفز إلى رأسي كلما استمعت لمبادرات تطلق من هنا أو هناك حول ما آلت إليه الأوضاع المصرية، خصوصاً بعد الانقلاب العسكري والجدل الذي يثار على أي منها ويطال أصحابها.
هل غاب عن أصحاب المبادرات أننا لم نتفق على شيء من أساسيات الديمقراطية التي تمهد لطرح مبادرات من الأساس، لم نتفق على دستور نابع من الشعب وخادم له لا للسلطة، ما زلنا نختلف حول النظام السياسي وحول الديمقراطية نفسها التي تفضلها الأغلبية الشعبية، بينما الأقلية تفضلها عسكقراطية.
ونختلف حول الإجراءات الاقتصادية التي يهلل البعض لأوهام المليارات التي لم ولن تتحقق، وأصحاب رؤوس الأموال والسلطة وخدامهما يفضلون السياسات النيوليبرالية واقتصاديات السوق وشروط المانحين والمقرضين الدوليين حتى لو على حساب الأغلبية الكادحة من الشعب، ولو أدى الأمر لانسحاقهم، بالأعم لم نتفق على أصول السياسة وثوابت الاقتصاد والحريات.
والحل لن يكون في مبادرات تطرحها النخب فيما بينها طالما لم نتفق على الخطوط العريضة لحياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل يكون بإدخال العامة في معادلات الوطن مجدداً، بعد أن تلاعب بهم واستخدمهم كل طامع في السلطة والنخب بمختلف اتجاهاتها على السواء، وأول طريق إدخال العامة للمجال العام مرة أخرى هو احترامهم والاعتذار لهم وتوعيتهم بحقائق الأمور وبما يحقق لهم الحياة التي يرجونها.
نخب تأخذ العامة يميناً ويساراً ثم تصدر لنفسها مبادرات سياسية في ظل نظام غير سياسي (هي من أتت به وهللت له)، ثم تتحدث عن انتخابات واستفتاءات في ظل مَن سرق خاتم شعار الدولة ويستخدمه عوضاً عن آراء الناس وقراراتهم.
وطالما خرج الدستور عن كونه عقداً اجتماعياً؛ لأنه لم يوفر للمصريين حقوقهم ولم يحمِ حرماتهم وحرياتهم، فهذا دستور السلطة لا الشعب، والمطلوب عقد اجتماعي شعبي يفهمه الناس ويتفقون على ما فيه ككل المجتمعات المتحضرة، فلماذا لا نبدأ (قبل المبادرات) بصياغة عقد اجتماعي وسياسي واقتصادي شعبي بعيداً عن الدستور (العقد الرسمي) الذي لا يدري أغلبية العامة عنه شيئاً ولا يذكرون اسمه إلا عند التصويت عليه.
عقد شعبي تقتنع به الغالبية العامة والنخب بمختلف التوجهات على السواء، عقد شعبي يقول بوضوح إن إدارة الدولة تكون لصالح الشعب وبمشاركته، وإذا تضرر الشعب من سياسات السلطة فحقه أن يسعى لإزالتها، يقول للناس إن الحرية هي من تحافظ عليكم وليس سياسات الأمن العدوانية، يقول للناس إن التنافس السياسي يكون بين الأحزاب السياسية فقط، وإن مؤسسات الدولة يجب أن تبقى على الحياد، يقول للناس إن عبادة السلطة وتأليه الحاكم ولّى زمنها، وإن التداول السلمي للسلطة هو الطريق السليم والمضمون لنيل حياة كريمة، يقول للناس كيف يكون الوصول للحكم وكيف يكون الحكم لصالحهم، يقول لهم إن من يروج لغير ذلك من النخب والإعلام هو يخدعهم ويريد استمرار استعبادهم.
فمن يرفض أصول الديمقراطية والحريات العامة وضمان توزيع عادل للثروة بالتأكيد هو ضد الأغلبية، ويخرج عن الإجماع الشعبي، وبعيد عن أي عقد اجتماعي شعبي أو رسمي.
وبدلاً من التناحر وإهدار الزمن علينا أن نتفق على أن مبادرات الاصطفاف والحلول السياسية لا بد أن تستند إلى عقد اجتماعي شعبي متفق عليه، ثم علينا التحرك لإنجازه.
حينها يمكن طرح مبادرات أو حلول سياسية، وقد تلقى قبولاً لدى الأغلبية، وبهذا قد تتحول إلى واقع ملموس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.