جرت العادة في مصر القديمة أن يُطلَق على حاكم مصر لقب "الفرعون"، كما كان يطلق على حاكم الفرس لقب كسرى، وكذلك حاكم الروم لقب القيصر.
ولكن ارتبط لقب الفرعون بالحاكم الإله في مصر القديمة، والحاكم الفرد الذي بيديه كل شيء، حتى تخيل نفسة بأنه يحيي ويميت، وأنه الإله في الأرض، وقد ورد ذكر ذلك اللقب في التوراة والقرآن الكريم.
واستمر اللقب في العصور الحديثة، ويطلق على الحاكم المصري، الذي يملك كل السلطات في يديه ويحكم البلاد حكماً ديكتاتورياً ومن حوله حاشيته وبطانته يزينون له صنيع أفعاله مهما كانت سيئة.
ولنا أن نضع تحت هذا اللقب كثيراً من الأمور السيئة التي يتصف بها، فهو الطاغية والديكتاتور والمستبد الذي يقمع ويقتل كل معارضيه دون رحمة ولا هوادة.
ويتحمل الشعب طغيان وظلم حاكمه حتى يأتي الوقت لانفجار ذلك الغضب الكامن في الصدور، وقتها لا يهتم المواطن بأي شيء، ويقدم روحه وحياته في سبيل حريته والتخلص من ذلك الطغيان، وعلى مر العصور والتاريخ تذكر لنا صفحات التاريخ كثيراً من حركات النضال ضد مثل هذا الحاكم الطاغية، وزوال عروش وسلاطين وإمبراطوريات حكمت شعبها بقبضة من حديد، وانتهاء حكم قيصر وكسرى وأباطرة الرومان والروس وملوك وقياصرة في كل دول العالم، سواء في العصر الحديث أو ما قبل ذلك.
ولنعُد إلى منطقتنا العربية تحديداً في العصر الحديث، وحركات التحرر من الاستعمار والانقضاض على الملكية التي كانت تحكمها في العراق واليمن ومصر على سبيل المثال، تم التخلص منها بالثورة عليها.
ويهدف المواطن بثورته إلى العيش الكريم والحرية كما كان شعار ثورة يناير/كانون الثاني ضد الفرعون مبارك هي: "عيش.. حرية.. كرامة إنسانية.. عدالة اجتماعية".
ولكن بعد زوال حكم مبارك هل تحقق للمصريين ما أرادوه من العيش الكريم والحرية والكرامة، أم كانت ثورة كالبركان قذفت حممها وغضبها وأطاحت بالفرعون ثم سرعان ما خمدت وعاد البركان إلى سكونه، وخصوصاً بعد أن عانى الكثير من البسطاء من تبعات تلك الحمم البركانية وحدهم ودون سواهم من القابعين خلف السواتر لحماية مصالحهم من رجال الدولة ورجال العمال وأصحاب المصالح والنفوذ وغيرهم.
ويقول عبد الرحمن الكواكبي (في كتابه "طلائع الاستبداد ومصارع الاستعباد")، إن استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل، وإن الله خلق الإنسان حراً قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبد قائده الجهل، ويرى أن المستبد فرد عاجز لا حول له ولا، قوة إلا بأعوانه أعداء العدل، وأنصار الجور، وأن الاستبداد أصل كل فاسد.
ولكننا شعب أخذ على الرضوخ والاستسلام بطبائع الأمور والاستسهال بعد تجربة معاناة، كما كنت أقول قبل ثورتنا، نحن شعب يحتاج إلى خبطة قوية تهزه من سباته ليستيقظ على واقعة المرير الذي يجيد طوال الوقت التكيف معه، رغم مرارته، ويصبر نفسه على تلك الأناة، وأنه لا يريد أن يخوض تجربة تكون عواقبها وخيمة يدفع ثمنها قهراً وظلماً وتنكيلاً.
كما كان يحدث في السابق حتى بعد انقلاب يوليو/تموز 52، هلل الشعب برحيل الملك، وبحثت الثورة عن طوق نجاة ليقرب منها الجموع، فكان قانون الإصلاح الزراعي من وجهة نظرهم، وكذلك الخطب الرنانة الفارغة من المضمون وغير القابلة للتحقيق.
ويُحكى عن وقائع كثيرة بسبب ذلك التعنت من قادة الانقلاب وقتها، كما حدث في عهد السادات بطرد الخبراء الروس ووقفت عجلة الإنتاج في مصانع كثيرة، بسبب عدم القدرة على التعامل مع المعدات الروسية، كما حدث في مصانع الإسمنت، ولم يكن لديهم من المرونة أو استخدام نظرية الأبواب المواربة لفتح طرق عند اللزوم.
أو كما حدث مع هولندا، عندما حاولت أن تقدم لمصر معونات طبية هي في أمَس الحاجة إليها، ورفضت مصر بسبب تصفيق هولندا للعدو المنتصر، حتى كان رد السفير الهولندي أن العالم دائماً يصفق للمنتصر وحاربوا وسترون كل الهولنديين يصفقون لانتصاركم.
كما يستخدم دائماً الفرعون نظرية الفزاعة وتخويف وترهيب الشعب من الإرهاب، أو من الخارجين عن حضن الدولة.. كما يأتي دائماً باللوم على من حوله من أتباع يصورون له الأمور وردية وطيبة، وهم منغمسون جميعهم في الفساد والاستبداد والطغيان.
ونحن في بلادنا نسعى إلى خلق الفرعون الحاكم الواحد المطلق الذي يعي كل شيء وبيديه كل شيء، فهو الذي يسجن ويأمر بالقتل، وهو من يعفو ويصفح، ويظن نفسه وطنياً مخلصاً، وهو لا يعرف ما يدور حوله ولا يسمع إلا من بطانته فقط.
ولنأخذ انقلاب يوليو مثلاً الذي كان من مبادئه تحقيق الديمقراطية التي ما زلنا إلى وقتنا هذا نسعى إليها، ونتمناها وكأنها أمل بعيد.
ولا أدري هل العيب في فهمنا للديمقراطية، أم في عدم قدرتنا على تحقيقها، أم جبن الحاكم المستبد الذي يسعي دائماً إلى الاعتماد على أهل الثقة وإقصاء أهل الكفاءة بحجة حماية كرسي حكمه؟!
ومع انقلاب يوليو تحول الشعب المصري إلى شعب عبوس صامت، خرست الألسن وقصفت الأقلام وقهرت حرية الرأي والفكر وكممت الأفواه وتم تأميم الصحف والشركات. وانتشر الأفاقون والانتهازيون الذين يصورون للحاكم حسن أفعاله وارتفع قدرهم وسجن المثقفون وأهل العلم والخبرة ورجال السياسة وأصحاب الرأي والمشورة، ولم يعد لأحد كلمة في إدارة شؤون البلاد إلا الوصوليون.
كما نشطت أجهزة الأمن في تتبع هؤلاء من ذوي الخبرة والرأي والعلم والثقافة والأبرياء من المواطنين، وانتشرت كتابة التقارير السرية في الأبرياء بغرض زجهم في المعتقلات والتخلص منهم، كما انتشر التعذيب في السجون للحصول على الاعترافات التي ترضي زبانية الحاكم وليس لمعرفة حقيقة الأمور.
كما كانت هناك المحاكمات الجائرة والاستثنائية والعسكرية والظالمة لردع مَن يعترض على قرار الحاكم أو حتى من لديه النية للاعتراض تعرض للقهر والظلم، وحتى يثبتوا دعائم حكمهم. وتمت الوشاية ببعضهم البعض، والتجسس على بعضهم البعض، حتى يظهر ذلك الحاكم الذي يعلم دبيب النملة في أرجاء مملكته.
لم يطلق الحرية للأحزاب السياسية التي تملك الفكر والبرامج والرؤى، والتي لديها الكوادر الجاهزة لإدارة ملفات الوطن في كل الأنحاء، ولم يترك أصحاب الفكر والثقافة في خلق جيل يملأه الوعي والنضوج، ولم يعلم أن التعليم والمعرفة أساس تقدم الأمم ورقيها، إنما أرادوا أن يعيش المواطن في جهل وظلام، حتى يضمنوا السيطرة عليه، ويخططوا لما أرادوا ويستبيحوا ما ليس من حقهم في سرقة شعب مغلوب على أمره، استسلم للخضوع والخنوع.
حتى عدت الآن إلى أن أفكر أن هذا الشعب ما زال يحتاج خبطة قوية فوق رأسه توقظه من ثباتة ليحقق شعار ثورته (عيش حرية كرامة إنسانية)، وليتخلص من نظرية الفرعون الحاكم الإله الفرد المطلق الذي يملك كل شيء ويقرر كل شيء، وأن يعترفوا أن العالم تغير ويسير إلى الأفق، ونحن ما زلنا نعيش في عصورنا القديمة فيما قبل التاريخ، فرعون انتهي ولا بد أن يكون من الماضي، وبأيدينا نحن وفقط.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.