كانت ثورات الربيع العربي خروجاً على المألوف… إلا أن إخفاق هذه الثورات في تحقيق غايتها الكبرى حتى الآن لأسباب كثيرة نعيش تجلياتها يومياً … فإن الأمر يتطلب من كل الأحرار في عالمنا العربي البحث عن آفاق جديدة للنهوض!!!
وإذا كان الإنسان يرى الأشياء بعين طبعه واهتماماته فقد تفكرت في الحج ومناسكه كمنهجيه يمكن للقوى المطالبة بالتغيير والإصلاح أن تسير على هداها لإحداث التغيير السياسي المنشود لذا لن أتناول هنا النواحي الشرعية والفقهية المتعلقة بمناسك الحج إلا بالقدر الذي يخدم القضية التي نحن بصددها.
أولاً : الخروج على المألوف فكراً وحركة :
الحج كما هو معروف خروج على المألوف في كل شيء في العبادات والعادات والتقاليد وما تهوى الأنفس..!!! ففي الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه) رواه مسلم ورغم أن الحديث لا يحتاج إلى شرح إلا أن المفهوم غير المباشر له هو أن الحاج عاد إلى وطنه وداره قوي الإرادة فلا مكان بعد اليوم لقول لاأستطيع.. لاأقدر.. لا أتحمل… فقد انتصر على نفسه وهواها…. فخرج على ما شاب عليه وألفه في كل حياته ترك أهله وعشيرته، أكل ما تيسر، توسد الأرض والتحف السماء ، كظم غيظه وأمسك لسانه، إلتزم المكان وتقيد بالزمان أدرك الحكمة أو لم يدرك… قائلاً هذا الدعاء العجيب الذي يجيب على كل ما يلقي به الشيطان في أمنيته أو توسوس به نفسه ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)
ومن ثم فعلى القوى المطالبة بالتغيير أن تدرب أفرادها ومحبيها على الخروج على المألوف فكراً وحركة بما يخدم واقع مجتمعاتها… والإبداع في بعض جوانبه ما هو إلا خروج على المألوف…
ثانياً : الإعلان وعمومية الدعوة والبلاغ .
قال تعالي: ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الحج ( 27)، وقال الله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)… وهذا يعني أن القوة التي تريد الإصلاح يجب عليها أولاً وقبل كل شيء إعلان دعوتها الإصلاحية وغايتها وأهدافها وأفكارها لكل مكونات الشعب … فالحقيقة يجب أن تقال والجهر بكل مقوماتها وكل مقتضياتها ضرورة. لجميع مكونات المجتمع في وضوح لا لبس فيه وذلك عبر كل الوسائل الإعلامية والدعائية دون كلل ولا ملل حتى تسود أفكارها وبرامجها وتؤثر في كل مكونات المجتمع فتصبغه بصبغتها ليشكل حاجزًا منيعًا دون وصول الخصم إليها والنيل منها وبغير ذلك لا يمكن لها أن تحقق إصلاحاً مستداماً … فالفكرة عندما تسود وتنتشر ستكون كفيلة بإحداث التغيير في العادات والتقاليد والسلوك الفردي والجماعي ومن ثم الأبنية الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي يتشكل النظام السياسي بدوره على ضوء هذه المتغيرات من دون حدوث هزات حادة" قد تقلب الأمور رأساً على عقب وتأتي بنتائج كارثية كما حدث ونعيشه الآن…
ثالثاً : أنواع النسك وعلاقة النخبة بالأمة
للمسلم أن يحج متمتعاً أو قارناً أو مفرداً وكما هو معلوم المتمتع هو الذي يجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج فيأتي بالعمرة أولاً ثم يتحلل من إحرامه ثم يهل بالحج من مكانه يوم التروية، أما القارن فهو الذي يجمع بين العمرة والحج معاً دون تحلل بينهما ، والمفرد هو الذي ينوي الحج فقط ومنهم غالبية الحجاج…. ومن ثم فالقوة التي تريد التغيير والإصلاح المستدام أن تعي أن الناس ليسوا سواء فمنهم من لديه الوقت والمال والقدرة فيحج متمتعاً أوقارناً وهم قلة "نخبة" ومنهم دون ذلك فيحج مفرداً وهم غالبية المجتمع "الأمة" .. أردت بهذا التفصيل المعروف القول بأن القوة التي تريد التغيير وحدها لا تستطيع أن تؤدي دورها وتحقق أهدافها ما لم تتعاون معها فعاليات الأمة كلها… فكما يقول علماء الاجتماع السياسي إن الأمم لا تعطي حماسها لتيار ما إلا إذا توافر له شرطان… الأول أن تفهم مقاصده وأهدافه، والثاني أن يتبنى مشاكلها الحقيقية … فخادم القوم سيدهم … فدور النخبة الأساسي هو القيام بدور الموجه والمستشار ثم "المحفز" و"المفعل" و"المحرض" للأمة بكل فعالياتها .. فكلما قل التيار المناصر لهذه النخبة أو القوة الراغبة في التغيير فشلت في تحقيق أهدافها و تمكن الخصم من إشغالها بنفسها… والعكس صحيح … !!!.
رابعاً : الإحرام ومحظوراته وتوحيد المرجعية والراية
من المعلوم أن المسلم إذا نوى الحج لا يدخل في النسك إلا بعد أن يتحلل من ملابسه ويرتدي ملابس الإحرام البيضاء وفق الشروط المتفق عليها والتي لا تميزه عن أي حاج آخر أسوداً أو أبيضاً أميراً أو غفيراً … قائلاً (لبيك اللهم حجاً … لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) منذ تلك اللحظة تُحرم على الحاج بعض الأمور منها ما هو مستحب تركه ومنها ما هو واجب تركه لو فعله الحاج يجب عليه دم ومنها ما يفسد عليه حجه وعليه خلع ملابس الإحرام والعودة من حيث أتى وعلى الباقي إكمال المسيرة… ويستفاد من ذلك أن القوة التي تريد التغيير عليها أن توحد الراية والشعارات الجامعة لأبناء الأمة والتي منها تنبثق رؤيتها الاستراتيجية للتغيير ولإصلاح والضوابط والمعايير والحقوق والواجبات التي تلبي متطلبات الفرد والجماعة، وآليات المحاسبة وكيفية تطبيقها على الخارجين عليها شرط أساسي للقوة التي ترغب في تحقيق النصر والإنجاز المستدام أكرر الإنجاز المستدام وهذا يتوقف على مدى نجاحها في مرحلة البلاغ والإعلان والتي أشرنا إليها أعلاه وفي حالة عدم الاتفاق على هذه المرجعية لن تحقق الإنجاز المطلوب وإن نجحت في تحقيق مكاسب مرحلية لا تسمن ولا تغني من جوع على المدى البعيد.
خامساً : أشهر الحج والرؤية الإستراتيجية
قال تعالي: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي ) البقرة(197)… الحج أشهر معلومات البداية والنهاية … ومن الثابت أن من لم يخطط للنجاح فقد خطط للفشل وإن كان ذلك واجب على المستوى الفردي والمؤسسي فإنه في حق القوة المطالبة بالإصلاح المستدام أوجب بل هو فريضة شرعية وضرورة بشرية… فعليها أولاً وضع رؤيتها الإستراتيجية للمطلوب تحقيقه داخلياً وخارجياً وخططها المرحلية لتحقيق ذلك وفق جدول زمني معلوم البداية والنهاية مستجيباً للواقع وتحدياته ، وأحلام الغد وطموحاته … يقول خبراء الإستراتيجية (أن القوى الإصلاحية الطموحة خاصة العقائدية منها، والدول العظمى لا تغير استراتيجياتها بسهولة لأن هذه الاستراتيجيات لاتصنع بالإلهام أو النزوة ، ولا تتقرر بقيام حكم أو سقوط حكم، ولا يؤثر فيها أن يذهب رئيس ويجئ رئيس، وقد تتغير السياسات المعبرة عنها لتتلاءم مع متغيرات الظروف، لكن الأهداف يمكن الاقتراب منها عن طريقين اقتراب مباشر أو اقتراب غير مباشر، مع بقاء الهدف في الحالتين ظاهراً أمام عيون طالبيه حتى وإن أخذتهم التضاريس إلى الطرق الدائرية) وغياب هذه الرؤية الإستراتيجية يحول النصر إلى هزيمة محققة إما بالتسخير أو الاحتواء أو الاستدراج لخدمة أجندات أخرى فتعيش أسيرة الفعل ورد الفعل ومن ثم الدوران في حلقة مفرغة تستنزف الجهد والوقت والمال بل تصبح بطريقة غير مباشرة عاملاً من عوامل استدامة الفساد والطغيان الذي قامت أساساً لمجاهدته والقضاء عليه!!! أليس هذا ما حدث؟
سادساً : المطوفون للحجاج والقادة الميدانيون
المطوفون هم قادة الميدان القائمين على خدمة الحجاج وإرشادهم والطواف بهم في المشاعر المقدسة لتأدية نُسكهم فهم،، ونظراً لاختلاف لغات الحجاج وجنسياتهم وعاداتهم وتقاليدهم فعلى المطوف أن يجيد لغة من يقوم على إرشادهم ومعرفة عاداتهم وتقاليدهم بالقدر الذي يجعله ينجح في مهمته ويحفظ على الحجاج حجهم … وما أحوج القوة المطالبة بالتغيير و القائمين على الإصلاح اليوم إلى استنبات وصناعة وتبني قادة ميدان حقيقيين في كل مدينة وقرية وحارة يكونوا انعكاساً لواقع مجتمعاتهم بأفراحه وأتراحه وتطلعاته وطموحاته متحدثين بلغته التي يفهما فيمتلكوا قلوبهم قبل أجسادهم فيصبحوا منارة يقصدها الراغبون في الإصلاح ويهتدي بهداها الوارثون… هذا وهذا فقط هو الذي سيدفع المجتمع ليقف ويضحي ويصبر ويتحمل النتائج عندما يحين وقت النفير العام (يوم التروية) … وكما أشرنا أعلاه فإن الأمم لا تعطي حماسها لتيار ما إلا إذا توافر له شرطان الأول أن تفهم مقاصده وأهدافه والثاني أن يتبنى مشاكلها الحقيقية … فخادم القوم سيدهم .
سابعاً: مرحلية المواجهة من الإحرام إلى الرجم (محلي حيث حبستني)
الحاج عندما ينوي الحج أو العمرة ويدخل في النسك ملبياً (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ) يسن له أن يقرن التلبية بقوله : ومحلي حيث حبستني وهذا الشرط يعني أنه إذا عرض له حادث أوعارض خطير يمنعه من إكمال العمرة أو الحج خلع ملابس الإحرام ورجع دون أن يكون عليه شيْ… وهذا فيه عدة إشارات منها:
1- أن القوة المطالبة بالإصلاح والتغيير يجب أن يكون لديها خطط بديلة معلومة الخطوات في حالة حدوث شيء خطير يهددها ككيان أو يهدد المجتمع ككل قبل يوم (التروية) النفير العام (فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، والمنكر لا يزال بمنكر أكبر منه) ففي هذه الحالة يمكن تأجيل المواجهة احترافاً وليس انسحاباً..
2- أن يكون النظام قد علم أن الأمر جد وليس هزل فيستجيب لكل المطالب الإصلاحية مع ضمانات تضمن عدم نكوصه عنها مستقبلاً وكفى الله المؤمنون القتال.
3- أن يكون النظام أخذته العزة بالإثم وأبى الاستجابة … يأتي الإنذار الأخير بالتجمع والاعتصام سلمياً في المكان والزمان المحدد (بمنى ثم عرفات) فإن لم يستجب النظام يبدأ الهجوم الشامل المنظم باستخدام القوة المنضبطة(حمل الحصى من مزدلفة) وتحديد الأهداف التي يجب رجمها فقط بلا زيادة ولا نقصان ومع تباشير الصباح يبدأ الرجم برأس النظام أولاً ثم حاشيته وأعوانه ودعائم وأركان حكمه … أينما هرب وتحصن (الجمرة الكبرى والصغرى والوسطى) ويستمر الرجم حتى يصبح أثراً بعد عين ثم يكون التحلل وطواف والوداع.
سابعاً: حماية المكتسبات والحفاظ عليها وإقامة دولة المؤسسات
كان صلى الله عليه وسلم في حجه يقول (خذوا عني مناسكم لعلي لا ألقاكم بعد عامكم هذا) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عرفة فقال: "يا أيها الناس أي يوم هذا؟" قالوا يوم حرام قال: "فأي بلد هذا؟" قالوا بلد حرام قال: "فأي شهر هذا؟" قالوا شهر حرام قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا". فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال: "اللهم هل بلغت.. اللهم هل بلغت". قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته (فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض). وقال صلى الله عليه وسلم (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ) بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أقر حج الصبي قبل بلوغه روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قوله ( حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم) وفوق هذا فقد سئل عليه الصلاة والسلام حينما رفعت إليه امرأة بالروحاء صبيا وقالت: (ألهذا حج؟ فقال: نعم ولك أجر) …. كل هذه الإشارات توضح مدى أهمية المحافظة على النصر واستدامته…. الأمر الذي يتطلب وضع ضوابط وقوانين جامعة مانعة في دستور الدولة تنعكس عملياً على مؤسساتها وجميع مكوناتها يستحيل تجاوزها أو تغييرها فتكون سداً منيعاً أمام كل من تسول له نفسه أو يفكر أن يستبد أو أن يسعى في الأرض فساداً ….
حج مبرور وذنب مغفور وسعي مشكور
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.