كثيراً ما يتحدث مثقفو العالم العربي أو المهاجرون العرب في بلاد الغرب عن الفوارق بين مجتمعاتنا العربية الشرقية ومثيلتها في بلاد الغرب، ولعل من أهم ما يتحدثون عنه هو الفارق بين التواد والتقارب بين الناس في مجتمعاتنا العربية وبين الجفاء والانعزالية في المجتمعات الغربية. وأننا -أي العرب- لدنيا من العاطفة ما ليس للغرب، أو بالأحرى، كما عبر عنها أستاذنا الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه الماتع "رحلتي الفكرية – في البذور والجذور والثمر"، نحن لدينا كثير من التراحم في حين لديهم الكثير من التعاقد.
وبناء على ذلك، تكون المجاملات في الأفراح والمآتم، وإظهار الكرم، ومساعدة الفقير والسؤال عن الجار وغيرها بعضاً من أوجه التراحم، ويصبح -في المقابل- انعدامها أو قل ندرتها في بلاد الغرب دليل على غياب التراحم وعلى سيطرة الفردية والانعزالية والجفاف والتقوقع. كما يصبح أيضاً -على سبيل المثال- وجود النظام في بلاد الغرب (كالوقوف في الطوابير بالمنشآت الحكومية) ووجود العدل (القضائي والمالي) ووجود النظم التشريعية والديمقراطية دليلاً على تعاقد المجتمع الغربي على وجود هذه القيم، ودليلاً أيضاً على غياب أوجه التراحم المذمومة، كالعشم والمحسوبية وغيرهما.
إلا أن الواقع يبدو اختلافاً في تعريف مفهومي التراحم والتعاقد وليس اختلافاً في الإجراء، أو بمعنى آخر، التراحم في بلادنا تراحم مشروط: فمجاملتك أحدهم (في فرح أو كره)، تتضمن شرط رد المجاملة إليك، وإلا فلن تقوم بها من الأساس، وبالتالي وجود المجاملة مرهون بالعقد الاجتماعي الذي يُلزم المُجامَل أن يرد إليك ما أديت إليه، حتى لو كنت متديناً وتجامل الآخرين غير معتبر للعقد الاجتماعي الذي يستلزم رد المجاملة، فأنت تتوقع أن يعود عليك هذا في صورة أجر تأخذه من الإله الذي تعبد، والذي يعني وجود عقد أوجده اعتقادك بوجود خالق يعيد إليك ما قدمت، وربما مضاعفاً، ولهذا فإن تراحمنا في أصله تعاقد، وليس تراحماً مطلقاً، وبهذا أيضاً يصبح الاختلاف بين المجتمعين الشرقي والغربي اختلافاً في نوع التعاقد، وليس اختلافاً بين التراحم والتعاقد، فالتراحم المطلق فكرة أقرب إلى اليوتوبيا منها إلى الواقع الإنساني.
والاختلاف بين أنواع التعاقد، لا يعني أفضلية أحدها على الآخر، بل يعني أننا كي نصل لتعاقد مثالي، يجب أن نتعاقد في الأصل على ما يجوز وما لا يجوز فيه التعاقد، كمثال توضيحي، يمكننا أن نتفق/نتعاقد على وجود التعاقدات الصغرى بين الأفراد (المجاملة والسؤال.. إلخ)، بالطريقة التي تحلو لهم ما دامت لا تعتدي على تعاقدات أو توقعات بقية أفراد المجتمع (من عدل وحقوق ومساواة.. إلخ)، وفي نفس الوقت، لا يجوز أن نتعاقد على العشم والمحسوبية والرشوة والمحاباة.
وعلى هذا تبدو، من وجهة نظري، فكرة الخلط بين محددات التعاقد وانتشار التعاقدات فيما لا يجوز التعاقد عليه (طبقاً للعقد الديني أو الاجتماعي) أساساً لفساد كثير من مجتمعاتنا العربية. فما انتشار الظلم القضائي إلا بسبب تعاقد القاضي مع السلطة، وما انتشار الظلم المؤسساتي وسرقة المال العام إلا بسبب تعاقد الموظف مع من يراقبه (مصر نموذجاً)، وما انتشار كل هذا وأكثر إلا بسبب انتشار مثل هذا التعاقدات واعتراف المجتمع بها كطريقة لنيل ما يصبو إليه الأفراد، وزاد من قوة هذه التعاقدات الفاسدة تعاقدات أكبر وأفسد أوجدتها تلك الأنظمة على مر السنين، ومع صعوبة التعايش مع كل هذه التعاقدات، كانت الثورة عليها (متمثلة في ثورات الربيع العربي أو حتى في ثورة المواطن على موظف سلبه حقه)، هدماً لمنظمة تعاقدات فاسدة صارت بالتقادم بدهيةً في أغلب المجتمعات العربية.
ولنفس هذا الخلط فشلت الأنظمة التي ولّدتها ثورات الربيع العربي من البقاء صامدة ضد الثورات المضادة، فكيف لنُظُمٍ -تدعي الثورية- أن تنجح ولم تنجح بعد في القضاء على تعاقدات أوجدها الفساد؟! كيف لهذه النظم أن تنجح ولم تفلح في أن تتعاقد مع فئات المجتمع وأحزابه على مفاهيم العدل والديمقراطية والتشريع.. إلخ؟!. بل كيف لنا أن نتعاقد على مفهوم تعاقدي كالانتخابات التشريعية أو الرئاسية -على سبيل المثال- ولم نتعاقد أولاً على مفاهيم تأسيسية، كالديمقراطية والشورى.. إلخ؟ كيف لنا أن نتعاقد على وجود الصندوق ولم نتعاقد أولاً على ما يترتب عليه وجوده؟! إن أرادت ثوراتنا نجاحاً فعلينا الالتفاف حول تعاقدات لتلك المفاهيم، وإلا فليس هناك أي ثورات!.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.