غالباً عندما أتحدث عن التعددية فأقصد بها مشروعية التعدد، وحق الجميع في التعايش السلمي، وحرية تبني الآراء المختلفة، إضافة إلى حقهم في التعبير عن أنفسهم، وحرية المشاركة على صعيد تسيير الحياة في مجتمعاتهم، ولفهم التعددية أكثر لا بد من معرفة نقيضها، ألا وهو الإقصاء، والإقصاء لا يحتاج لتوضيح كثير، فهو وببساطة الرفض والتهميش.
إن الناظر في حال مجتمعاتنا العربية، خصوصاً في أيامنا هذه وفي ظل الثورات التي نشاهدها، يرى تبايناً في الآراء وانقساماً في وجهات النظر حتى وصلت إلى حد الاستقطاب، فمنا من يؤيد فكرة ما أو جماعة ما، ومنا من يعارض، وهذا أمر صحي وطبيعي في النفس البشرية، لأسباب في أغلبها اجتماعية وعقلية ونفسية وبيئية، وعلينا إدراك ذلك جيداً.
لعل هذا التباين والانقسام وحتى الاستقطاب في غالبه نابع من كيفية فهمنا للحقيقة، فمعظمنا يدعي الحقيقة ويحتكرها لنفسه، وحتى نخرج من هذا النفق المظلم وللتغلب على هذه المعضلة علينا أن ندرك أن الحقيقة قد تكون نسبية وليست مطلقة، وعلينا خلق ثقافة تعددية تقبل التنوع واحترام وجهات النظر المختلفة وترفض الإقصاء، لكن مثل هذه الثقافة لا تتكون من تلقاء نفسها ولا تتحقق في ليلة وضحاها، خصوصاً في وجود إرادة سياسية لدى الأنظمة العربية الحاكمة رافضة لها ومعترضة طريقها.
بينما ندرك الدور الكبير الذي تلعبه معظم الأنظمة الحاكمة في فرض توجه واحد لا يسمح للمجتمعات أن تحيد عنه يمنة ولا يسرة، تبرز الصعوبة البالغة في تغيير هذه الحالة لدى الأفراد نحو قبول التعددية واحترام المخالفين في الرأي ووجهات النظر، أما الذي يدفع الأنظمة الحاكمة نحو هذا الفرض والإكراه فهو من أجل تكميم أي أصوات قد تعارض أو تنتقد سياساتها وتوجهاتها مستقبلاً.
للمفارقة نسمع أحياناً أن بعض الأنظمة الحاكمة الإقصائية تدعي زوراً إيمانها بالتعددية والمواطنة المتساوية لجميع المواطنين دون تمييز أو إقصاء، وهي تمارس فعلياً أعتى وأقسى وأشد أنواع الإقصاء والتمييز ضد الأفراد والأحزاب، وتقوم بالاعتقالات التعسفية والقمع وتكميم الأفواه، من خلال قوانين فضفاضة تدعي مكافحة الإرهاب والتطرف، وهي في حقيقة الأمر تكافح المعارضة والانتقاد.
يجدر هنا الإشارة إلى أمر مهم أنه من غير المقبول إطلاقاً لأي فرد أو جماعة أن تفرض الرأي بالقوة أو الإكراه أو التهديد والتخويف، لا بد من نبذ العنف، ولا بد من الالتزام بالوسائل السلمية، فالحديث هنا عن تعددية مشروعة ضمن الأطر القانونية والدستورية والمبادئ العامة التي قامت عليها الدولة، وعلى الأنظمة الحاكمة تحديداً أن تعلم جيداً أن الإقصاء لن ينفعها وسيرتد عليها في حال ابتعادها عن السلطة لأي سبب كان، وبالتالي مَن يُقصي الآخرين يُقصي نفسه.
لكن قد يستدرك أحدهم بأن الكلام مثالي وبعيد المنال، وأن وجود مثل تلك المجتمعات التعددية في وطننا العربي الكبير ضرب من المستحيل، وليس أكثر من أمنيات، وهذا استدراك مهم، لكن لا ينبغي أن نتفق في كل شيء، فكلنا نخطئ ولا ندعي العصمة من الخطأ، وكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا الأنبياء عليهم السلام، لكن لنجتهد في سماع بعضنا بعضاً، ولنسمح للجميع في التحدث والتعبير عن أنفسهم بحرية.
هذا الجهد لا مكان فيه للرومانسية ولأصحاب القلوب الضعيفة الذين يستسلمون بسرعة، أوروبا الحديثة المزدهرة التعددية لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم إلا بعد ما يقارب الـ150 عاماً على الأقل، إن امتلكنا الإرادة والتصميم استطعنا السير قدماً نحو مجتمعات تعددية، وبالفعل في تونس استطاع الفرقاء التونسيون التوافق على عقد اجتماعي جديد لا يقصي أحداً، ولا يميز ضد امرأة أو أقلية، ولكن يكفل التعددية والمواطنة المتساوية للجميع، وحصل ذلك في أقل من 5 أعوام تقريباً.
لتكن تونس قِبلة نحو التعددية ومثالاً نحتذي به جميعاً -في الوطن العربي- وتحديداً إلى الشباب العربي الذي أنتمي إليه، كيف لا وهم الذين ثاروا، ليس ضد آبائهم، ولكن بالنيابة عنهم، فالشباب هم عماد النهضة ومستقبل الأمة، وأختم باقتباس لطيف للمفكر الإسلامي السعودي الدكتور سلمان العودة؛ حيث تحدث عن التعددية في الفقه الإسلامي، فقال: "المسائل الخلافية والاجتهادية ليست مشكلة تحتاج إلى حل، بل التعددية هي المتنفس في أكثر الأحوال، لاستيعاب التنوع العقلي والنفسي والاجتماعي والبيئي".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.