فرنسا شمالاً وأميركا غرباً وروسياً شرقاً.. ثلاث دول تصنف كدول متقدمة في ثلاثة أقطاب مختلفة من الكرة الأرضية، إلا أن ما تعيشه هذه الدول ونعيشه معها في بلداننا يعبر عن التخلف الواضح الذي عادت إليه هذه النماذج، بل وتستمتع بتخلفها!
بداية دعوني أوضح أن التخلف الذي أقصده هنا أنواع: التخلف بمعنى الرجعية والعودة فكرياً للعصور الحجرية، والتخلف عن مختلف المواعد الديمقراطية، وأيضاً التخلف بمعنى الرجوع عن المبادئ الأساسية التي تأسست عليها تلك الدول، وتخلف آخر بمعنى العزوف عن القيم العالمية السامية التي اتفقت عليها كل البلدان بغض النظر عن تصنيفها كالسلام والإنسانية والعدل والمساواة والحرية والشفافية.
فلعل معظم الناس تابعوا الأحداث الصيفية الأخيرة في فرنسا عن "البوركيني"، هذا الاسم الجديد الذي ما إن تسمعه لأول مرة تتبادر إلى ذهنك دولة "بوركينافاسو" الواقعة جغرافياً في غرب إفريقيا التي تعتمد في اقتصادها على الزراعة وتنتج الفول السوداني ولا تنتج لباس البوركيني إطلاقاً.
هذا البوركيني الذي شهد تغطيات صحفية على الجرائد والمجلات والمحطات التلفزيونية -وغطى صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية كما غطى أجساد النساء اللواتي اخترن ارتداءه دون ضغط من أحد ولا إجبار بقانون- كشف للأسف بعضاً من الحقد الدفين في ثنايا الدولة الفرنسية، وبقايا التخلف الذي عاشته دول أوروبية بامتياز قبل عصر النهضة من تمييز جنسي بين الذكر والأنثى وتمييز اجتماعي صارخ بين طبقات المجتمع.
فمدينة نيس هذا الصيف كتب لها أن تشهد إرهابين؛ إرهاباً "داعشياً" أخاف الشرطة الفرنسية وأودى بحياة الكثيرين حينما دهس شاب بشاحنته البيضاء عشرات الأبرياء مسلمين وعرباً وعجماً في ليلة واحدة، وإرهاباً فرنسياً رسمياً تحت إشراف الشرطة الفرنسية نفسها بزيها الرسمي حينما أجبرت امرأة على خلع لباسها الساتر أمام أعين الناظرين، وفي وضح النهار.
فكما أن للإرهاب الجسدي الليلي آثاراً جانبية، فإن أثر الإرهاب الرسمي أخطر؛ إذ إنه محاربة للفكر، وزعزعة للأمن النفسي لفئة معينة، وخرق للحريات الفردية والاختيارات الشخصية، وهذا مخالف تماماً للشعار الذي تتبجح به فرنسا وتذيل به علمها ولافتاتها!
"حرية، مساواة، أخوة "..ثلاث كلمات قد تجهل فرنسا معناها الحقيقي، أو بالأحرى تتجاهلها كلها حين يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين، أو بالسكان الفرنسيين والمهاجرين.. ولعل التصريحات الرسمية لـ"فرانسوا هولاند" بعد أحداث نيس في يوليو/تموز الماضي كانت واضحة تجاه معاداتهم، حيث تحدث عن "الإرهاب الإسلامي"، كما زعم، ولا يخفى على أحد أن الحملات ضد الإسلام والمسلمين تزايدت في عهدي "ساركوزي وهولاند".
نعم، نحن لا ندري ما يدور في فلك مبنى الاتحاد الأوروبي إذا التقت مكوناته في اجتماعاتها، لكن أليست تلك الدول المتحدة التي تتظاهر بقوتها منفردة، فضلاً عن قوتها مجتمعة، وتتحلى بالشجاعة في التدخل في الشؤون الداخلية لبلدان أخرى، هي نفسها الخائفة من الدين ورموزه؟ فالمنطق يقتضي أن القوي لا يخشى الضعيف، وأن الشجاع لا يخاف ممن هو أقل شجاعة منه! أم أن المنطق أيضاً تخلف عن موعده مع الدول المتقدمة؟
عودة للعلاقة اللغوية بين" البوركيني" و"بوركينافاسو"، فمعنى هذه الأخيرة هو "بلد الناس الطاهرين"، كما أن مصممة اللباس الأسترالية ذات الأصول اللبنانية كان هدفها أن يكون تصميمها و"إبداعها "موجهاً للنساء الطاهرات العفيفات من المسلمات وغير المسلمات، نساء يردن التعبير عن حشمتهن بغض النظر عن خلفياتهن الدينية والأيديولوجيا، أو قد يجدن راحتهن أكثر في هذا اللباس الذي يقيهنّ حر أشعة الشمس المحرقة التي لا تفرق بين جِلد مسلمة وجِلد غيرها.
في فرنسا، إذا كنتَ ملتحياً وترتاد المسجد بانتظام أو إذا ارتديتِ الحجاب أو البوركيني فأنت متهم حتى تثبت جريمتك، وربما لن يتأخر البرلمان في إصدار قانون لمحاربتك.
أما أميركا التي تعتبر نفسها الدولة العظمى والنموذج الأمثل للديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، فكل اعتباراتها مجرد شعارات واهية وادعاءات واهمة لا طائل من ورائها إلا المصلحة الذاتية لواشنطن، ولا أدل على هذا من تدخلات أميركا في شؤون الدول الأخرى، كإسقاطها لـ"طالبان" في أفغانستان، وتأسيسها لمعتقل غوانتانامو في كوبا؛ لجمع ما يحلو لها من "الإرهابيين"، حسب زعمها، دون رقيب ولا حسيب، وكذا انتهاكات سجن "أبو غريب" في العراق، حتى قالت جوديت أريناس، المتحدثة باسم منظمة العفو الدولية: "أصبنا بخيبة أمل؛ لأن حقوق الإنسان استخدمت كمبرر لشن حرب في العرق، والآن يتعرض العراقيون لانتهاكات لحقوق الإنسان".
كما قال المفكر الأميركي المعروف ناعوم تشوميسكي: "من وجهة النظر القانونية هناك ما يكفي من الأدلة لاتهام كل الرؤساء الأميركيين -منذ نهاية الحرب العالمية- بأنهم مجرمو حرب، أو على الأقل متورطون بدرجة كبيرة في جرائم حرب".
أميركا أيضاً لها يد طويلة في معظم الانقلابات العسكرية في العالم، كما أنها تحمي الانقلابيين، ولعل حمايتها للداعية التركي "فتح الله غولن" آخر نموذج لذلك، فرغم أن وطنه الأم تركيا طالب بتسليمه لاعتقادهم الجازم بتورطه في محاولة الانقلاب الأخيرة -وأهل تركيا أدرى بشعابها- فإن واشنطن لم تسلمه إلى اليوم، وأصاب الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو" لما سئل: "في أي دولة لا يمكن وقوع انقلاب؟"، فقال: "في أميركا؛ لأن ليس فيها سفارة أميركية"، وقد تصدت فنزويلا وما جاورها من بلدان أميركا اللاتينية لعدة محاولات انقلابية كانت أميركا متهماً رئيسياً فيها.
وعلى المستوى الداخلي أيضاً، يشهد بلد الولايات الخمسين تمييزاً عنصرياً من طرف الشرطة تجاه المواطنين السود، وتمييزاً طبقياً بين فئات المجتمع، ولعل ما شاهدنا من أفلام وثائقية عن السجون الأميركية، وسلسلة "بريزن بريك" الشهيرة، ليسا إلا غيضاً من فيض مما يعيشه أبناء العم سام في عقر دارهم.. إنه تخلف الدول المتقدمة!
انظروا إلى روسيا كدولة متقدمة أخرى وعلاقتها بأحداث الحرب على سوريا في قتل همجي للإنسانية.. دفاعاً عن مصالحها، أرواح بالآلاف تزهق، وحضارة بمساحاتها تدمر، ووطن برمته يمحى، فأي تقدم هذا الذي يرجح كفة المصلحة الشخصية على حفظ الإنسانية والكرامة لشعب ذاق ما ذاق من ويلات النظام وعاش سنوات في الظلم والظلام؟!
أي تقدم هذا الذي يبنى على تدمير الحضارات والبنى التحتية وتجربة الأسلحة الجديدة على البشر، من أجل إعادة إعمار تلك البلدان مستقبلاً ودعمها عن طريق تمرير صفقات لبيع الأسلحة والتجهيزات العسكرية؟!.. إنه تخلف الدول المتقدمة!
فهنيئاً لدول فرنسا وأميركا وروسيا تقدمها وإنسانيتها وديمقراطيتها وتقبلها للآخر، وهنيئاً لنا في القطب الجنوبي تخلفنا ورجعيتنا وعدم احترامنا لخصوصيات الآخرين، أما الصراع فهو قائم بين الخير والشر إلى يوم القيامة، كما أن التخلف والرجعية لا جنسية لهما بتاتاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.