حينما تشتد المعاناة ويستمر الوجع ويتكالب شرار الناس وتراق الدماء يجد المرء نفسه مضطراً للتفكير في أمر يتعلق بالبقاء من عدمه، وطالما تعلق الوضع بمحافظة كتعز، فإننا نتحدث عن أربعة ملايين شخص على الأقل يواجهون وضعاً يفرض عليهم خوض معركة البقاء بكل مستوياتها وهو أمر صعب.
بداية العدوان على هذه المدينة كان بمثابة إعلان بدء هذه المعركة المصيرية، معركة بقاء يخوضها أبناء محافظة تعز، سواء كانوا في المدينة أو في ريفها، ترك معظم الناس أعمالهم بداية الأمر، ومنهم غادر أماكن الحرب إلی مناطق أكثر أمناً تاركاً الكثير وراءه في سبيل الاستمرار في حياة تبدو مغامرة.
وفي الريف لم يكن الناس بعيدين عما يحدث في المدينة؛ إذ إن الأوضاع الميدانية انعكست علی حياتهم، وعانوا كثيراً من الجوع والحصار والبطالة بشكل كبير جداً حتی تحرير محافظات مجاورة، وهذا الأمر أتاح لهم هامشاً من حرية التنقل بحثاً عن "الحياة"، وعمل يمنحهم الاستمرار فيها، أما سكان المدينة فكان لصمودهم فيها حكاية مريرة، حكاية القتل والتدمير والحصار والتشريد، وهو أمر لم تألفه تعز خلال قرون خلت، وكانت تعز المدينة المسرح الرئيسي لمعركة البقاء أو "الارتقاء".
معركة فصولها تطول لتشمل فرض حصار ظالم امتد لمنع كل شيء، وتشمل أيضاً استخدام الحمير في عمليات إدخال نزر يسير من المساعدات إلی السكان، وهي مفارقة لا ينبغي إغفالها؛ إذ إن الحمير التي لا تعقل تحركت فعلياً لفك الحصار، بينما عجز الضمير الإنساني عن فعل شيء باستثناء "الإدانة"!
وكما تقرر أمر السكان ما بين الصمود في الريف أو الصمود في المدينة تقرر أيضاً وفقاً لسنن الله في الكون من سيكون في صف تعز، ومن سيكون في صف أعدائها، وهذا الأخير أمر مخزٍ حينما يساند الإنسان الغرباء في تدمير منزله ونهبه وقتل أهله، وكان للإغراء المادي والولاء الحزبي الضيق دور في هذا الأمر، أضف لذلك أن هؤلاء الأشخاص استخدمتهم الميليشيات كأحذية تقيها حر الأرض، وقُتل كثيرون منهم في سبيل أهداف "دنيئة".
لسنا وكلاء عن الخالق سبحانه وتعالى حتى نقرر من سيكون من أهل الجنة أو من أهل جهنم، لكن شتان بين مَن يقاتل دفاعاً عن دينه وعرضه ونفسه وماله بوسائل بسيطة، وبين من يقاتل لأجل غاية رخيصة في سبيل "تقديس الأشخاص" وباستخدام "أسلحة دولة".
ولا تزال معركة البقاء هذه مستمرة، وحينما تحط قدمك في هذه المدينة ستجد أن هناك حالة كبيرة من التأقلم وعدم اليأس، ويتجلى ذلك في كثير من مشاهد الحياة اليومية، وحتى الذين رحلوا عن المدينة بحثاً عن لقمة عيش تتيح لهم الاستمرار في الحياة، باتوا أشبه بلاجئين وغرباء وتم ترحيلهم قسرياً لأنهم ينتمون إلی تعز.. تعز التي تعاني لأجل قضية وطن يتسع للجميع.
يجب أيضاً أن لا ننسی أن تعز فندت نظرية "البقاء للأقوی" واستبدلتها بـ"البقاء للحق"؛ لأن الحق فوق القوة، ومهما طالت معركة البقاء يبقی من المؤكد أن تعز لم يكتب لها الفناء بعد.. وإن غداً لناظره قريب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.