في سجون مصر يقبع الكثير من الرجال والشباب والأطفال الذين يضربون أروع المثل في التضحية والفداء دفاعاً عن أوطانهم وحرية مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وخلف هؤلاء جميعاً زوجاتهم وأمهاتهم وأخواتهم اللائي يسطرن معهم ملحمة التضحية والصمود.
شاهدت، كما شاهد الكثير، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تلك الصورة التي هزتني هزاً عنيفاً، وهي صورة لفتاة في مقتبل العمر، وهي تتكئ على عصاها، ثم تختلس بعض اللحظات غير مكترثة بقبضة السجان لتمسك يد زوجها بإحدى يديها، وتطعمه في فمه باليد الأخرى، في مشهد تلقائي عجيب يعلي قيمة الود والحب بين الزوجين، حتى في أشد المواقف وأصعبها.
فوجدتني أمسك بقلمي تلقائياً لأسجل هذا المشهد الذي سجله التاريخ، وسجل مثله مئات بل آلاف المشاهد لهؤلاء الأفذاذ خلف القضبان في السجون والمعتقلات، في مشاهد قد يجود الزمان بمثلها، ولكن دعوني أسطر هذا المشهد الإنساني في المقام الأول، إنه مشهد يبعث على القوة، نعم فقد تجسدت القوة في هذا الموقف، ولكنها قوة ليست بالمعنى المعروف بقوة الساعد والسلاح، إنها" القوة العاطفية".
علي متولي
شاب في منتصف العشرينات من عمره، حاصل على ليسانس آداب جغرافيا، قسم مساحة.
شاب طموح لم ينتظر الوظيفة الحكومية، بل كان مجتهداً منذ صغره، حتى استطاع أن ينشئ لنفسه محلاً صغيراً (باترينه) داخل نادي المهندسين بالإسكندرية ليستطيع من خلالها أن يوفر قوت يومه وزوجته التي لم يمر على زواجهما سوى شهرين!
تم اعتقاله للمرة الأولى من أمام قسم باب شرقي بالإسكندرية، أثناء زيارته لأحد زملائه هناك، وقاموا بتلفيق قضية له، وخرج بعد ثلاثة أشهر قضاها مظلوماً في سجون العسكر.
وبعد خروجه واصل الليل بالنهار حتى يستطيع توفير متطلبات الزواج، وبالفعل استطاع الزواج في فبراير/شباط 2016.
وعاش مع زوجته حياة هادئة مع مواصلة الليل بالنهار في عملين مختلفين صباحاً ومساء حتى يستطيع توفير متطلبات الحياة.
وهكذا مضت الحياة مع زوجته، وقد بدت أحلامه تتحقق في تأسيس بيت ثم أسرة؛ لتسير الحياة هادئة طبيعية حتى بدأ الظالمون وأعوانهم في كسر فرحتهم بحياتهم الجديدة.
ففي ليلة من ليالي شهر مايو/أيار الماضي وبعد حديثه في الهاتف مع زوجته، وتحديداً بعد منتصف الليل، حين طلب منها تجهيز طعام العشاء؛ لأنه قادم في الطريق وسيصل بعد قليل.
ظلت زوجته في انتظاره عدة ساعات، ولكنه لم يصل، وحينها انطلقت زوجته باحثة عن شريكها في كل مكان تتوقع وجوده فيه فلم تجده، حينها توجهت إلى أقسام الشرطة، وأيضاً لم تجد له دليلاً كما لم تستطع الوصول إلى مكانه، حتى فوجئت في عصر اليوم التالي باتصال هاتفي من أحد جيرانها يخبرها باقتحام رجال الأمن الملثمين والمدججين بالسلاح لشقتها ويبعثرون محتوياتها، وحينها علمت أن زوجها في قبضة رجال الأمن، ولكنها لم تستطع التعرف على مكان اختفائه، وحين وصلت إلى منزلها فوجئت ببعثرة محتويات الشقة وسرقة شبكتها من غرفة النوم.
فتوجهت ببلاغات عدة لمحاولة الوقوف على مكان زوجها، ولكن دون جدوى!
وبعد اختفائه قسرياً قرابة الشهر ظهر أخيراً في قاعة النيابة بمحكمة المنشية، وقد بدت عليه آثار التعذيب والإنهاك، كما قاموا بخلع كتفه وضربه على ساقه حتى بدا وكأنه مصاب، وظهرت على جسده بقع زرقاء وكدمات بسبب ما تعرض له من ضرب وصعق وركل!
وبعد عرضه على النيابة استطاع أن يحصل على إخلاء السبيل، فعادت الفرحة تغمر قلبه وقلب زوجته مرة ثانية، ولكنها لم تدُم طويلاً.
حين عاد إلى محبسه وبمروره على الأمن الوطني عدة مرات قاموا بتلفيق قضية جديدة له لا يعرف عنها شيئاً، ولم يكن يتوقع ذلك، ثم أعادوه إلى محبسه؛ لكي يعاود الكرة من جديد بين المحاكم والنيابات وأقسام الشرطة.
وعاد الحزن يخيم على وجه العروس من جديد، فهي التي ظنت أن عريسها سيعود إليها بعد غياب، فهي الفتاة التي لم يمر على زواجها سوى شهرين، ولم تكن تعلم أن حياتها ستتوزع بين أقسام الشرطة والمحاكم والنيابات لمراعاة زوجها الذي تعرض للتعذيب الشديد حتى توغل المرض إلى ساقه مع رفض النظام علاجه، في الوقت التي تعرضت هي فيه لكسر في ساقها أثناء حضورها إحدى الجلسات مع زوجها، وعلى الرغم من ذلك أبت فإن تواصل مسيرتها في إدخال السرور على قلبه رغم صعوبة تنقلها.
فهي التي لم تحلم يوماً إلا بوطن حر تستطيع أن تحيا فيه جنباً إلى جنب في رعاية زوجها، والقيام على شؤون أبناء المستقبل لتقدم نموذجاً مشرفاً في التربية والبناء على أسس الأخلاق الفاضلة، ولكنها أيضاً لم تكن تعلم أن أيادي الظالمين لن تتركها تحقق ما كانت تحلم به بسهولة، فاعتقلت الأنيس والسند، وحاولت تلك الأيدي الآثمة تحطيم ما تبقى من المستقبل لهذه الأسرة، ولكن صورة هذه الزوجة وزوجها تثبت حرصهما على وطنهما رغم ما تعرضا له من ظلم.
فهذه ليس قصة "علي" وزوجته، ولكنها جزء من واقع تعيشه آلاف الأسر المصرية، فهي قصة وطن اغتصبته عصابة الانقلاب لتكسر في أبنائه الولاء والانتماء، ولكن المصريين يثبتون كل يوم أنهم قادرون على إكمال مسيرة الحرية، مهما كلفتهم من ثمن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.