فيسك: العالم نسي “آلان” بعد عام على غرقه.. وينتظر موجة لاجئين جُدد من بلدان “ستان”

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/02 الساعة 11:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/02 الساعة 11:35 بتوقيت غرينتش

في ذكرى مرور عام على وفاة الطفل السوري إيلان الكردي ذي الثلاثة أعوام غرقاً أثتاء محاولة عائلته الوصول إلى اليونان بواسطة قارب صغير انطلق من سواحل تركيا، حمل روبرت فيسك في مقاله بصحيفة الإندبندنت البريطانية الخميس 1 سبتمبر/أيلول 2016 الأنظمة المستبدة وداعميها في العالم المسؤولية عن مقتل إيلان وآلاف الأطفال مثله، متوقعاً موجة جديدة من اللاجئين ستضرب العالم مستقبلاً في ظل وجود أنظمة استبدادية أخرى في بلدان "ستان" الممتدة بين أفغانستان وباكستان وروسيا وإيران

فإلى نص المقال
.

تجاوز جسد إيلان كردي الحالة "الأيقونية"، فصغرت سنه وملابسه التي تشبه طفلاً أوروبياً وبشرته البيضاء لا السمراء، واسمه الذي بات بعد مماته يتحول تدريجياً إلى الاسم البريطاني التقليدي "آلان" وابن العائلة الكردية اللاجئة التي كانت تخاطر بالهرب عبر المتوسط من تركيا إلى أوروبا، هذا الطفل بات الآن "طفلنا".

لحظة جرفت الأمواج جسده الصغير على شواطئ تركيا قرب مدينة بودروم وظهرت صورته على كل الصفحات الأولى حول العالم، لحظتها خرست لفترة وجيزة عنصرية رجال السياسة المتخفية. إذ أيّ قلبٍ متحجرٍ يقوى على شجب وازدراء هذا الولد وتسميته جزءاً من "قطيع"، حسب اللفظة التي أطلقها رئيس وزراء بريطاني سابق على سكان مخيم كاليه.

لكن صورة آلان كردي طغت على عدة دروس تجاهلناها ومازلنا مستمرين في تجاهلها رغم انطواء ذلك على أخطار قد تحدق بنا. أولاً بالطبع لقد كان الطفل رمزاً يمثل آلاف "الآلانات" والأطفال الآخرين الذين ترقد رفاتهم اليوم على قاع المتوسط مجهولة إلى الأبد دون أسماء مسجلة أو صور موثقة لهم.

لقد كان آلان رمزاً وربما ممثلاً لجيش هؤلاء الأطفال الموتى. لكنه كذلك غدا فداءً بعمره الصغير ذي الـ 3 أعوام جرفته الأمواج "شهيداً" لا ضحية العنف السياسي أو الخيانة، أما مسؤول الشرطة التركي ذو القفازين المطاطيين الذي تناول جسده برفق من على الرمل فغدا النسخة الذكورية عن تمثال Pieta. لكن إن كان النحات الإيطالي مايكل أنجلو قد صوّر الحزن قبل نصف ألفية بصورة هذا التمثال، فنحن الآن نرنو إلى الطفل الكردي السوري ونرى فيه ضحية ظاهرة مخيفة جديدة.

يُنظَرُ للاجئ، أو المهاجر الخائف، أو كما صار اسمه الآن لدينا "المهاجر الذي يشكل تهديداً"، على أنه حصراً عبء القرن الـ21 أو على الأقل القرن الـ20. لنا أن ننظر إلى الوراء إلى ملايين المهجّرين في أوروبا 1945 بعد الحرب، أو إلى ضحايا الثورة البلشفية، لكن التاريخ مضى مسرعاً.

ولأنني من دارسي التاريخ والأدب الكلاسيكي – اللاتيني وليس اليوناني – فقد تأثرت هذا الأسبوع، بعدما أنقذ الإيطاليون 10 آلاف مهاجر من البحر، تأثرت كيف أن قصة إيلان كردي وعائلته وملايين الآخرين هي فعلاً قصة من قلب تاريخ وثقافة البحر الأبيض المتوسط.

نقرأ مثلاً قصة ملحمية لعائلة لاجئة أخرى انطلقت بزورقها المتأرجح على مياه المتوسط من على بعد بضعة مئات من الأميال من نفس الساحل الأناضولي الذي أبحرت منه عائلة الكردي وسط مأساة العام الماضي. يروي ابن هذه العائلة كيف أنه وأباه "انطلقا في عرض البحر نحو المنفى مع أهلهم" تاركين وراءهم لا شيء سوى جثث وأرض محروقة مدمرة. وبعدما غادرا الأرض التي هي تركيا الآن وصلا أخيراً بعد عبور شاق للمتوسط من تونس الحالية – كم هي الدنيا دوارة وكم يصرخ التاريخ فينا كي نفهم دروسه المتكررة عبر العصور – حتى وصلوا الملاذ والملجأ في إيطاليا.

إينياس الطروادي

لكن الفرق في هذا النص التاريخي القديم أن اللاجئ هنا ليس "مهاجراً" يثقل كاهل الخدمات الاجتماعية في الاتحاد الأوروبي ولا ضمير أوروبا، بل كان بطل روما الأول ابن آنخيسس وأحد أقرباء الملك بريام ومن أجداد رومولوس وريموس. إنه إينياس الطروادي الذي تقص قصته إنياذة فرجيل دون الإشارة إليه على أنه "مهاجر"، بل تصفه بالنص اللاتيني الأصلي بأنه exsul أي شخص منفي، أو fato profugus أي شخص قدره أن يكون هارباً.

أما اليوم فلنا أن نطلق على إينياس وأبيه لفظة "منفيين بالاختيار". لو أردنا ترجمة كلمة "لاجئ" إلى اللاتينية لكانت الكلمة fugitivus، ولكن هذه الكلمة باتت تستعمل للمجرمين الفارين من العدالة، أي مثلما ينظر دونالد ترامب إلى المكسيكيين، بيد أنها لا تنطبق على الطرواديين أو الأكراد السوريين.

ما يشترك فيه إينياس وآلان كلاهما هو الحرب التي أخرجتهما من سواحل الأناضول، فبدلاً من طروادة التي تحترق ضع حلب المحترقة، ومكان دمار مدينة الملك بريام العريقة، ضع دمار الجامع الكبير وأسواق أكبر مدن سوريا ومقتل أهاليها وسكانها. النار والسيف هما الصاروخ والبرميل المتفجر.

شعب طروادة البارحة وشعوب الشرق الأوسط اليوم كانوا ومازالوا جميعهم يفرون بحياتهم. وبهذا نأتي الآن إلى الوجه الآخر لهذه المأساة، والذي ليس هو تاريخ الماضي، بل تاريخ المستقبل. في عصر الإنترنت توقفنا عن التساؤل والتفكير بهذا الأمر. لم يعد السؤال: "كيف حدث ذلك وكيف سمح له؟"، بل صار: "ماذا علينا أن نفعل الآن؟"، لا تسألوا لماذا أقدم 19 رجلاً ادعوا أنهم مسلمون على ارتكاب جرائم دولية بحق البشرية في 11 سبتمبر/أيلول، بل هلموا كي نغزو أفغانستان! لا تسألوا كيف وصل صدام إلى سدة حكم العراق، بل هيا نشمّر إلى احتلال العراق!

سواء كانت حروب طروادة أسطورة يونانية (رومانية لاحقاً) أم كانت قشرة صراع حقيقي في القرن الـ12 قبل الميلاد، فإن هذه القصة سواء كانت بنسخة أوديسة هوميروس أو إلياذة فرجيل هي قصة معاصرة تماماً كمأساة عرب الشرق الأوسط. يغادر المسلمون والمسيحيون تاركين وراءهم مساجدهم وكنائسهم، وكذلك إينياس غادر مع أبيه ورفاقه لم يأخذ سوى أصنام آلهة بيته معه؛ الكل كان يهرب من حماقات الملوك وأرباب الحرب وقادة الميليشيات والقادة المستبدين.

وهنا يأخذنا الحديث نحو أساطيل وجموع اللاجئين التالية التي قد تكون أكبر من سابقتها، والتي سوف تتدفق من أرضهم وبلدانهم على مدى العقود القادمة: هم ضحايا أنظمة شرسة صدامية ندعمهم في جزء آخر من العالم الإسلامي. إنني أتحدث هنا عن الأباطرة الصغار وحرسهم البريتوري وتماثيلهم وهياكلهم الرئاسية التي تمجدهم "إلى الأبد" في بلدان "ستان" الممتدة بين أفغانستان وباكستان وروسيا وإيران.

من خيرة المراسلين الصحفيين في وسط وشرق أوروبا دانييل مكلوخلين الذي لفت الأنظار إلى الأخطار التي تنطوي عليها الدول الإسلامية الآسيوية التي انبثقت من تحت ركام الاتحاد السوفييتي قبل ربع قرن. ففي منطقتهم الغنية بالنفظ والغاز والأهمية الاستراتيجية يشترك قادتهم في رقصة غزل مع موسكو وواشنطن بينما يرتكبون جرائم إنسانية مروعة ومذابح وعمليات تعذيب لشعبهم ضمن حربهم المعلنة ضد داعش وطالبان.

ظاهرة "الخلافة الإسلامية"

فمثلما أن وحشية وفساد الدكتاتوريات العربية التي سلحناها ومولناها هي التي ولّدت تيار ظاهرة "الخلافة الإسلامية" في الشرق الأوسط – والتي هي حصان طروادة عصرنا – فكذلك يشتبك كل من إسلام كريموف (توفي الجمعة 2 سبتمبر/أيلول 2016)، ونور سلطان نزار باييف وإمومعلي رحمون وكل البقية في قتال مع نفس العدو الأسود الأخطبوطي الزئبقي المحض في بلدان "ستان".

ففي أوزبكستان أصيب رئيسها كريموف الغاشم بسكتة قلبية، وهو الذي يتخصص رجال شرطته بالتعذيب وعلى الضحايا أحياء ليتفوق حتى على صدام حسين. يقول البعض إن كريموف مات، وهو خبر لا بد سيسر الحركة الإسلامية الأوزبكية الحليفة لكل من داعش وطالبان.

في طاجيكستان التي حصدت حربها الأهلية في التسعينيات أرقاماً كأرقام سوريا تصل إلى 100 ألف من القتلى، انضم 1000 من مواطني رحمون إلى صفوف داعش ومنهم جولمورود حليموف القائد السابق للشرطة الطاجيكية، ولا أنسى هنا أن أنوه إلى أن حليموف كان قد تلقى تدريبه في الولايات المتحدة الأميركية، فالأميركيون بعد 11 سبتمبر/أيلول حافظوا على قواعد جوية في كل من أوزبكستان وقرغيزستان.

أما نزارباييف الرهيب رئيس كازاخستان الذي لدى غرف تعذيبه وانتهاكاته للحقوق المدنية معايير قريبة من معايير كريموف، فهو يدفع الملايين لمستشاره الكادح المكد والمجد في العمل توني بلير، سوط تأديب المستبدين الرادع.

أظن النقطة باتت واضحة.

وعندما تنفجر يوماً ما هذه الدول الروريتانية المستبدة وأنظمتها الفاسدة، سيهل علينا اللاجئون من جديد، هؤلاء الذين "قدرهم العيش في منفى" والذين "قدرهم الفرار والعيش في مَهرب". تعداد سكان أوربكستان 30 مليون نسمة أي أكثر من سوريا بنحو الثلث. سيهيم هؤلاء على وجوههم عبر الحدود وكثيرون سيأتون إلينا بعدما يختلطون بالمزيد من الأفغان والسوريين والعرب، وعندئذٍ لن نسأل أنفسنا لا "لماذا" ولا "كيف حصل هذا"، بل سنسأل "ما العمل الآن؟"، وسيكون الوقت قد تأخر من جديد.

عندها سنسأل أنفسنا ماذا كان اسم ذلك الفتى الملقى على الشاطئ؟ إيلان أليس كذلك؟ أم تراه كان آلان؟ ومن وراء هؤلاء اللاجئين الجدد سنرقب الدمار والدخان المتصاعد فوق مدن طريق الحرير القديم تماماً مثلما تحترق حلب اليوم وطروادة من قبلها.

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Independent البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.

تحميل المزيد