مجتمع لم يجد مَن يحنو عليه

كان دائماً يقول: انظروا حولكم ودققوا النظر، كونوا صريحين مع أنفسكم أولاً قبل كل شيء، هل ترون أي أمل أو أي مؤشر لمستقبل أفضل مختلف؟!، كان على حق، كنا إذا نظرنا حولنا وجدنا الجهل يملأ الناس، وجدنا عقولاً مُغيبة مُتحجرة لا يمكن أن تختلف، وجدنا الفساد في كل مصلحة حكومية أو غير حكومية، وجدنا مجتمعاً مشوهاً، لكنه في نفس الوقت لا يريد أي عملية تجميل، مجتمعاً يرفض أي تغيير

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/01 الساعة 04:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/01 الساعة 04:01 بتوقيت غرينتش

لن أتحدث من وجهة نظري هذه المرّة، بل سأعرض لكم هنا وجهة نظر صديقي في مجتمعنا والمجتمعات التي تشبهه، والسبب في ذلك هو أنني أحترم وأحب صديقي هذا جداً، كنت أنا وباقي أصدقائه نظنه شخصاً متشائماً، شخصاً لا يفلح إلا في انتقاد الأوضاع التي نعيشها في مجتمعنا، ظنناه شخصاً اكتفى بلعن الظروف.

صديقي ببساطة يا سادة مختلف، لم ينظر إلى الأمور بسطحية قط، دائماً يحب أن يسأل ويستفسر عن مسببات وأصول الأشياء، لم ينظر إلى المجتمع بنظرة ذاتية فردية مثلما يفعل معظم الناس، كان يحلم يوماً ما أن يتغير المجتمع الذي نعيش فيه إلى الأفضل، على أية حال صديقي لم يعد يعيش هنا الآن، لقد أكرمه الله وهاجر ألى أحد المجتمعات الراقية المتقدمة التي يستطيع أن يحيا فيها، نعم لا تستعجبوا، يستطيع أن يحيا الآن؛ لأنه كان يصف نفسه بالميت طالما كان هنا، أعتذر لكم.

كان لا بد من هذه المقدمة، حتى تستطيعوا أن تفهموا لماذا كانت وجهة نظره دائماً متشائمة من مستقبل هذا المجتمع البائس.. باختصار، صديقي كان يرى أن مجتمعنا قد سيطر الفساد عليه من جميع النواحي والجهات، قد استشرى الفساد فيه وتغلل في جذوره، كان ينظر إلى مجتمعنا على أنه بيئة مناسبة جداً للفشل والتأخر، كل لحظة تمر، وكل نَفَس كان يستنشقه.

كل خطوة كان يخطوها هنا، كانت بالنسبة له دليلاً قوياً وعملياً على وجهة نظره في مجتمعنا، فبالنسبة له لم يكن يوجد أي مؤشر على مستقبل أفضل هنا، كانت نظرته تشاؤمية إلى أبعد حد، لكنها كانت للأسف واقعية، ولكن كما يقولون فإنه عندما تصبح الحقيقة مؤلمة، يُفضّل البشر الكذبة الحلوة، كنا دائماً ننتقده بسبب نظرته الخالية من الأمل، كان يَرُد دائماً بأن الوضع حقير ومزرٍ، ولكي يوجد أمل لا بد من وجود عناصر الأمل، وهو ما لم يوجد أبداً حتى بعد عشرين عاماً من محادثاتنا.

كان دائماً يقول: انظروا حولكم ودققوا النظر، كونوا صريحين مع أنفسكم أولاً قبل كل شيء، هل ترون أي أمل أو أي مؤشر لمستقبل أفضل مختلف؟!، كان على حق، كنا إذا نظرنا حولنا وجدنا الجهل يملأ الناس، وجدنا عقولاً مُغيبة مُتحجرة لا يمكن أن تختلف، وجدنا الفساد في كل مصلحة حكومية أو غير حكومية، وجدنا مجتمعاً مشوهاً، لكنه في نفس الوقت لا يريد أي عملية تجميل، مجتمعاً يرفض أي تغيير، حتى وإن كان هذا التغيير للأفضل، أذكر أنه كان يطلق على مجتمعنا لفظ "مجتمع مزيف"، كان يقول إن كل شيء حولنا هنا مزيف؛ حيث لا توجد مبادئ محددة وثابتة، لا تستطيع أن تتوقع ما الذي سيقوم به شخص في موقف ما، ردود فعل مختلفة تماماً لنفس الشخص في نفس المواقف، أشخاص مشوشون لا يمكن أن يتخذوا يوماً ما قرارات تبني مستقبلاً.

كان يقول: مجتمع جاهل خائف متردد لا يوجد أي أمل فيه أبداً، قادته نظرته هذه إلى محاولة الهروب والفرار من المجتمع بأي شكل، وهو لا يرى في هذه الرغبة أي عيب مطلقاً، كما يقول، فإن كانت الأوضاع لا تعجبه وهو يعرف أنه لن يستطيع تغييرها في يوم من الأيام، فمن وجهة نظره فإن الحل الأفضل هو الهروب من تلك الأوضاع، بالطبع كانت تنهال الانتقادات عليه بسبب رأيه هذا، ومنا من كان يصفه بالجبان، غير المنتمي، ولكن إجابته كانت دائماً: إنه يُفضّل أن يوصَف بالجبان، على أن يوصف بالحي وهو ميّت هنا…

أعرفُ أن الكلام يبدو يائساً جداً وصعباً عليكم، ولكنني أخبرتكم بذلك في بادئ الأمر، في الحقيقة انقسمنا إلى قسمين كرد فعل على آرائه الغريبة هذه، منهم من قال إنه متشائم بائس خائف، وإن كلامه غير حقيقي، وإن الأيام ستثبت أنه مخطئ، ومنهم من قال إن وجهة نظره ربما تكون صحيحة، لكن ما لنا والمجتمع؟!، كل ما علينا هو تحقيق مستقبل أفضل لنا ولأجيالنا القادمة حتى ولو في تلك الظروف.

للأسف الشديد بعد عشرين عاماً، أستطيع أن أقول إننا خسرنا بوجهات نظرنا، وفاز هو، خسرنا لأن أصحاب وجهة النظر التي قالت بأنه مجرد متشائم بائس خائف، قد خسروا لأن الأيام أثبتت أن وجهة نظره كانت صحيحة، وأن المجتمع بقي بمشاكله التي تفاقمت ولم يتحرك للأمام خطوة واحدة، وخسر أصحاب الرأي الذي يؤيد فكرة تحقيق مستقبل أفضل لهم ولأجيالهم القادمة؛ لأن منهم من لم يستطع أصلاً أن يحقق مستقبلاً أفضل له أو لأجياله القادمة، ومن استطاع منهم أن يحقق مستقبلاً أفضل، فإنه لم يحقق ذلك إلا من الناحية المادية فقط، لكنه خسر جميع الجوانب الأخرى الموجودة في المجتمعات المتقدمة الحيّة، مثل حرية التعبير، وحرية الفكر والإبداع، ولا مانع أنه خسر بعض مبادئه أيضاً كي يحصل على المال، في كل الأحوال هو لم يحقق سوى المادة مقابل التخلي عن أشياء كثيرة من شأنها أن تشعره بأنه بالفعل إنسان يحيا..

مَرّ على آخر لقاء بيني وبين صديقي ما يقرب من عشرين عاماً، لكننا ما زلنا على اتصال من حين لآخر، وأذكر في إحدى المرات كنت أتحدث معه عن آرائه تلك أيام شبابنا، محاولة مني لاستعادة ذكرياتنا القديمة، فتغيرت نبرة صوته فجأة، وكأن الحزن قد ملأ نفسه، وصرّح لى بشيء لم أكن أتوقعه أبداً، قال لي إنه لم يتمنَّ يوماً أبداً أن تنتصر وجهة نظره، وقال لي إنه دائماً ما كان يأمُل أن تتغير الأوضاع للأفضل في مجتمعنا، كان ينتظر شمس كل يوم جديد تعلن عن أمل في تحسُّن أوضاع مجتمعنا.. آه، يا لك من شخص غريب الأطوار يا صديقي!

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد