قانون دور العبادة الموحد بالله

وفي عهد المجلس العسكري الحاكم لمصر حدث ما حدث من اضطهادات وصلت إلى المضايقات البسيطة هذه إلى الدهس بالدبابات لجموع المسيحيين، ومع هذا لم تحرك الكنيسة ساكناً، وفي عهد نظام الإخوان المسلمين أيضاً لم يكن للكنيسة موقف "واضح" يذكر، حتى ٣ يوليو ٢٠١٣ حين وضعت الكنيسة حجر الأساس في علاقة وطيدة بنظام السيسي القادم حينها، كان حجر الأساس هذا هو مشاركة بابا الكنيسة الأرثوذكسية نفسه في بيان ٣ يوليو لعزل محمد مرسي، وهي ضريبة أمان دفعها مقدماً البابا للنظام العسكري دون ضمانات حقيقية للحفاظ على حقوق المسيحيين الأرثوذكس كأقلية.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/31 الساعة 07:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/31 الساعة 07:35 بتوقيت غرينتش

أهلاً بكم في مصر، موطن التوحيد ومنبته الأول، منذ ثلاثة وثلاثين قرناً خرج أخناتون مبشراً المصريين بالتوحيد بين الآلهة في شخص الإله آتون، ومن ثَمَّ أصاب المصريين بعدها هوس لا مثيل له في العالم بالتوحيد في كل شيء في الآراء والمعتقدات والذوق والتوجهات السياسية وحتى كرة القدم، ويعزو المصريون دائماً مشاكلهم إلى التفرق وغياب التوحيد، سواء كان المُوحد هنا إلهاً أو رأياً أو أيديولوجيا، المهم ألا نتفرق أبداً ولا نحمل اختلافا.

لذلك لا عجب أن تجد أن مصر التي كانت تعج بديانات مختلفة ما لبثت حديثاً أن تتقلص فيها الاختلافات ويطرد منها المختلفون أو يضطهدون أو يهربون؛ لنجد أن مصر تتألف كلياً من أغلبية كاسحة تماماً من المسلمين السُّنة في مقابل أقلية مسيحية أرثوذكسية، والقليل القليل من طوائف دينية أخرى تكاد تختفي من فرط الرغبة في التوحيد؛ لكن وحدهم المسيحيين الأرثوذكس استطاعوا البقاء كل هذه المدة في وسط محيط من الأكثرية السنية لقرون كانت كفيلة بأن يذوبوا فيه لولا صمودهم العقائدي ودور الكنيسة السياسي.

وعندما يأتي الذكر على الدور السياسي للكنيسة فأنا لا أنوي أن أغرق في سرد معلومات عن العلاقة التاريخية والمتقلبة بين الكنيسة والدولة، إنما أرغب في أن يكون ما سأسرده الآن هو مجرد تحليل لهذه المواقف، فإن المعلومات -وإن كثرت- فإنها تلعب دور الضوء، ودون تحليل لها يعمل عمل الجهاز البصري لربما فهمناها مقلوبة رأساً على عقب.

لن أخوض كثيراً في كلام مطول عن ثورة البشموريين ودور الكنيسة في تدجين الأقباط عبر قرون بأحاديث وهمية عن طاعة الحكام والملوك، ولا أعتقد أن الحديث عن هذا حتى بات مجدياً، ولكن بالأحرى يجب أن نضع المجهود الأكبر في فهم علاقة الكنيسة بالدولة الحالية، وإن كان لا يتوافر أمامي كثير من المعلومات عن دور الكنيسة السياسي في ما قبل فترة جمال عبدالناصر، ويبدو أن هذه الفترة حُذفت تماماً من تاريخ مصر بفعل فاعل حتى إنه نادراً ما يصادفني مرجع تاريخي يأتي على ذكر تلك الفترة بتفاصيل غير مفبركة، فلا يتيسر لقارئ عادي مثلي أن يفهم حتى موقف الكنيسة من ثورة ٢٣ يوليو/تموز مثلاً!! وإن كنت أعتقد أن التاريخ لا يضيع تماماً، ولكن البحث مرهق، وحتى في فترة جمال عبد الناصر لا نجد من الكنيسة موقفاً سياسياً واضحاً سوى مجاراة الوضع السياسي بالقبول دائماً، أياً ما كان هذا الموقف، وفي تحليلنا للوقائع التاريخية نجد أول المواقف التي تستحق الوقوف أمامها والتأمل فيها عام ١٩٧٧، وهو العام الذي رفض فيه البابا شنودة دعوة السادات إلى أن يصطحبه إلى إسرائيل ناهياً بذلك "شهر العسل" بين الكنيسة والدولة.

قد يبدو غير مفهوم قرار البابا هذا، وتبدو كل مبرراته غير مقنعة ما دام مقتطعاً من سياقه، وخاصةً في ظل انعدام الطموح السياسي للكنيسة، ولكن إن عدنا قليلاً في الوقت نجد أن الموضوع بدأ من السادات نفسه حين أطلق اليد للجماعات الإسلامية لاستئصال ما تبقى من الجذور الناصرية، وفي خضم هذا الصراع تلقى الأقباط ضربات موجعة كثيرة من هذه الجماعات، وخاصةً في صعيد مصر.

المهم جرى ما جرى وعاقب السادات رأس الكنيسة الأرثوذكسية عقاباً شديداً جداً، وحدد إقامته في النهاية عام ١٩٨١، إلى أن اغتيل السادات مؤخراً في نفس العام على يد الجماعات الإسلامية، وبخيانة من النظام اللاحق لا تخفى على أحد، ويقال في التراث المتداول بين مسيحيي مصر: "إن الدولة تعلمت الدرس تماماً بعدما قُتِل السادات بمعجزة إلهية عقب تحديد إقامة البابا بأربعين يوماً"، ولكن الحقيقة أن الكنيسة هي التي استوعبت الدرس جيداً، وأدرك البابا شنودة نفسه أنه بالغ في تقدير قوته، وأن الكنيسة لن تصير أبداً فاعلاً في العمل السياسي، وإنما مجرد أداة في يد النظام، ويبدو أن الجميع فهم ضمنياً أنه لن يكرر هذا الخطأ مجدداً، وقد كان طوال عهد مبارك، مهما كانت الأزمات التي يتعرض لها المسيحيون والتي فاقت في العدد والحجم عن مثيلتها أيام السادات، ومع ذلك التزمت الكنيسة الصمت، مما يوضح لنا كم كان الدرس الذي لقنه السادات للكنيسة قاسياً.

وفي عهد المجلس العسكري الحاكم لمصر حدث ما حدث من اضطهادات وصلت إلى المضايقات البسيطة هذه إلى الدهس بالدبابات لجموع المسيحيين، ومع هذا لم تحرك الكنيسة ساكناً، وفي عهد نظام الإخوان المسلمين أيضاً لم يكن للكنيسة موقف "واضح" يذكر، حتى ٣ يوليو ٢٠١٣ حين وضعت الكنيسة حجر الأساس في علاقة وطيدة بنظام السيسي القادم حينها، كان حجر الأساس هذا هو مشاركة بابا الكنيسة الأرثوذكسية نفسه في بيان ٣ يوليو لعزل محمد مرسي، وهي ضريبة أمان دفعها مقدماً البابا للنظام العسكري دون ضمانات حقيقية للحفاظ على حقوق المسيحيين الأرثوذكس كأقلية.

هنا ينبغي أن نفرق جيداً بين البابا تواضروس وسلفه البابا شنودة، فالأخير كان موهوباً سياسياً وكان يعرف جيداً كيف يحصل على ما يريد في مقابل تنازلاته، أما البابا تواضروس فهو ضعيف الخبرة، وبالتالي لم يزِن الموقف جيداً، ولربما اندفع هو نفسه شخصياً في مواقفه وراء الشعارات القومية الهوجاء، ظناً منه أنه يقدم خدمة للوطن، ونستطيع أن نرى أن هذه المواقف المتهورة من البابا لا تحسب عليه هو فقط، بل على جموع المسيحيين المصريين، ويدفعون ضريبتها كاملة حتى لو لم يوافقوا عليها، ولكن غير الموافقين قلة، فالكنيسة المصرية تعتمد شأنها شأن كل المؤسسات الدينية الرسمية على اغتيال أفرادها عقلياً ورصهم في جماعة واحدة وتفريغ عقولهم من أي مضمون وفكر في سن مبكّرة جداً، وجعلهم يقبلون بالأمر الواقع وتبرير موقفهم الراضخ للسلطة هذا بصورة دينية وبميتافيزيقية تجعل المستقبل الذي يبدو مخيفاً موضوعياً مُبشِّراً عاطفياً، فالكنيسة تعلم في قرارة نفسها أن الإنسان ما دام قد نال درجة علم كافية ليدرك مأساوية وضعه حتى بات عليه التزام أخلاقي تجاه الأجيال القادمة، وإن لم يكن يستطيع أن يخلص نفسه فعليه أن يخلص جماعته، وهنا يأتي دور المؤسسات الدينية في تحويل دفة الخلاص المادي هذا إلى الخلاص "الروحي"، أي أنه بدلاً من أن يطالب الإنسان بحقه في حياة كريمة الآن فليرضَ بالذل طاعةً كي يحصل على ما هو أفضل فيما بعد.

ولكن ماذا يحدث إذا اصطدمت هذه الطاعة بجوهر الدين المسيحي نفسه؟ "الصليب"!! وأعني هنا قانون بناء الكنائس، دعك من العنصرية الفجة التي تملأ الاسم، تلك العنصرية التي هي مسؤولة عن كل الجرائم الطائفية التي يرتكبها المتطرفون، والمتطرفون الذين أعنيهم هنا ليسوا مجرد مواطنين جهلة بل هو متعلمون وأطباء ومهندسون وموظفون وأفراد بالأجهزة الأمنية ومحافظون ووزراء ورؤساء جمهورية أحياناً، لكن عودة إلى موضوعنا فإن الجدل اشتد بسبب مادة من إحدى مواد هذا القانون المزعوم، التي قد تعني ضمنياً عدم قدرة الكنائس على وضع صليب يميزها كمبنى عن باقي المباني.

ولكن ماذا عن هذا الصليب الذي لا فخر إلا به عند جموع المسيحيين في مصر؟ كيف من الممكن استمرار الكنيسة في لعب دورها السياسي كمتحدث باسم مسيحيي مصر الأرثوذكس إذا فرطت في الصليب الذي هو أهم من الحقوق السياسية والاجتماعية والمأكل والمشرب والمسكن وحياة الإنسان نفسه؟ وكيف يمكن للكنيسة أن تبرر موقفها إن وافقت لرعاياها؟ نفس هؤلاء الرعايا الذين تم إسكاتهم عقوداً على تجاوزات فجة مقابل الحفاظ على الفخر بالصليب؟ كيف للنظام أن يضع حلفاءه في الكنيسة في هذا الموقف الحرج أمام رعاياهم؟

والسؤال الأهم هنا هو لماذا قد يقوم النظام بافتعال مثل هذه الأزمة الآن؟ والإجابة هي أن الأنظمة عديمة الأيديولوجيا يقوم حكمها على التوازنات، فعقيدتها هي البقاء على الحكم ودستورها الحقيقي هو كيفية تمتع أفرادها ببعض المزايا لمدة خمس أو عشر سنوات أخريات، فقد يكون سبب تحمس الحكومة هنا لمثل ذلك القانون هو مواءمة مع حلفائها من السلفيين، أو توازن يقدمه النظام لأحد المانحين، أو ربما مجرد طيش من عضو مجلس شعب متعصب أو مسؤول حكومي رفيع المستوى يرغب في الدخول إلى الجنة من خلال الطريق السريع والمختصر بإزالة الصلبان، أو لربما أن أحد القانونيين في مجلس الشعب لم يفهم تفسير القانون فعلاً وتداعياته قبل طرحه، هناك قائمة طويلة جداً من الاحتمالات المتوَّجة بالكوميديا السوداء التي تعودنا عليها من النظام في مصر، لكن المهم أن لنفس الأسباب السابقة الخاصة بالتوازنات سيتراجع مجلس الشعب عن مقترحه هذا وسينطفئ فتيل أزمة المسيحيين في مصر لمدة ثم يشتعل من جديد، ومن يدري ربما يأتي الحل بقانون عبادة موحد بعد عمر طويل، أو يأتي المصريون بحلهم التقليدي وينقرض المسيحيون في مصر حتى نتوحد جميعاً تحت راية واحدة مواجهين نفس المشاكل بلا فائدة.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد