لقد دأبنا في عالمنا العربي على جعل الحاكم في مصاف الأنبياء والرسل لا يخطئ، وإن أخطأ لا يواجه بذلك، وإن حدث وانقلبنا عليه أصبح الشيطان الذي لم يترك خطيئة إلا وارتكبها، وهي العادة التي توارثناها منذ عهد الرئيس جمال عبدالناصر الذي مجّده التاريخ وعظّمه إلى الحد الذي جعل الكثيرون على اعتقاد أنه لم يقترف ذنباً في حياته، حيث قام المؤرخون والمناصرون بنسب الإنجازات له فقط ونسب كل سقطاته وأخطائه إلى الآخرين.
فلم تتحدث كتب التاريخ إلا عن الجانب الإيجابي في قراراته وشخصيته، متجاهلين بذلك الجانب المظلم بل وشديد القتامة فيه، الذي يطغى على الجانب الآخر، إذا ما قارنا بينهما، فلم يكن الجانب المظلم في تاريخ عبدالناصر هو أخطاءه السياسية فقط، بل كان الظلم والافتراء وتلفيق التهم الأخلاقية والسياسية لمعارضيه، وكان الإذلال والإهانة التي تجرعها الكثيرون دون ذنب يذكر، وكانت جريمة المساس بالتاريخ وتشويه الحقائق والتلاعب بالأحداث التي ما إن استفاق عليها الشعب حتى فقد ثقته بتاريخه ومصداقية مؤرخيه، وكان الخوف الذي زرعه في نفس كل مواطن من خلال أجهزة مخابراته فتحدث الجميع في السياسة همساً وكتم كل صاحب شهادة حق شهادته وأبدلها بالصمت قهراً، وحتى مع المحاولات المستميتة لإخفاء بطش عبدالناصر ومظالمه فهناك ما لا يمكن للتاريخ مهما بلغ من التشويه أن يمحوه ولا للباطل مهما علا صوته لسنوات أن يهزمه ألا وهو الحق.
"نجيب".. المأساة الصامتة
لطالما عُرف عن الرئيس محمد نجيب نزاهته وأخلاقه الكريمة وشرفه العسكري، وبطولته الفذة في حرب فلسطين التي ضجت أركان الجيش بأصدائها، والتي أصيب بها سبع مرات، منها ثلاث إصابات خطيرة، ولكن ذلك كله لم يكن شفيعاً له لدى جمال عبدالناصر والضباط الأحرار بل كان سبباً للنقمة عليه؛ حيث لم يلتفت عبدالناصر لذلك عندما قرر إخراجه من الحكم بصورة مسيئة وتهميش تاريخه بل ومحوه تماماً، وعدم التطرق لذكره للدرجة التي جعلت الكثيرين على اعتقاد بوفاته قبل حدوث ذلك، وهو الذي كان كذلك بالفعل فقد كان نجيباً حياً كالأموات، ولم يكن الخلاف السياسي بين نجيب وعبدالناصر يستدعي كل ما حل به وبأسرته فيما بعد من مآسي وويلات المذلة، فما حدث له كان بمثابة رد فعل مبالغ فيه واستغلال لسلطة حديثة العهد على صاحبها.
وقد بدأ الخلاف بينهما عندما تولى نجيب رئاسة مصر عام 1953 بعد إعلان الجمهورية وبدأ بمطالبة الجيش بالعودة إلى ثكناته وعودة الحياة النيابية، بالإضافة إلى ملاحظاته على سلوك بعض من الضباط الأحرار من استغلال للسلطة حتى شاع بين الناس آنذاك أن الثورة عزلت ملكاً لتأتي بثلاثة عشر ملكاً، وهو ما لم يتفق معه عبدالناصر وباقي الضباط، هذا وبالإضافة إلى الشهرة الواسعة التي تمتع بها نجيب في مصر والعالم باعتباره من قام بعزل الملك، وبدأ عهداً جديداً؛ مما أشعل غيرة عبدالناصر الذي شعر أنه الأجدر بذلك فهو من خطط ودبر ولم ينسَ أنه من اختار نجيب قائداً لهم ثم رئيساً لاستغلال رتبته الأعلى كلواء واتخاذه واجهة قوية لحركتهم، واستغلال شخصيته المحبوبة في الجيش لإقناع أكبر عدد بالانضمام إليهم وهو ما نجح به بالفعل؛ حيث انضم الكثيرون لحركة الضباط الأحرار فقط لوجود نجيب بينهم، وكانت نتيجة تلك الخلافات أن قام نجيب بتقديم استقالته من منصبه كرئيس جمهورية في فبراير/شباط عام 1954، وهو الأمر الذي لم يلقَ استحساناً من الشعب؛ حيث خرجت المظاهرات في مصر والسودان لمدة ثلاثة أيام تطالب بعودته، فما كان من الضباط الأحرار إلا أن رضخوا تحت وطأة رغبة الشعب خوفاً من أن ينقلب الناس ضدهم، فلم يكن وضع البلاد قد استقر بعد.
ولم يدُم ذلك الرضوخ كثيراً حتى حسموا أمرهم وتمت إقالته في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، مبررين ذلك بمحاولته الاستئثار بالسلطات والحصول على نفوذ أكبر من صلاحياته، ليفاجأ نجيب بقرار مصادرة جميع ممتلكاته وعزله من مناصبه وتدمير نياشينه ووضعه تحت الإقامة الجبرية هو وأسرته، التي استمرت لمدة 20 عاماً، بدأت يوم إقالته حينما اقتاده العساكر من مكتبه إلى فيلا زينب الوكيل، زوجة النحاس باشا -وهي الفيلا التي صادرها النظام دون وجه حق- وقد كان الجميع على علم مسبق بما سيحدث، حيث قام الحراس بمجرد وصوله للفيلا بقطف كل ثمار الحديقة من برتقال ويوسفي، كما تم إفراغ المنزل من جميع محتوياته من أثاث وسجاد وتحف ولم يُترك به سوى القليل، وتم تحديد عدة غرف فقط ليعيش بها هو وأسرته، ويذكر محمد يوسف محمد نجيب، أحد أحفاده، وهو ما ذكره أيضاً الرئيس نجيب في مذكراته، أن عبدالناصر قد عين حراساً أشداءً على الفيلا منعوا خروج أي من أفراد الأسرة من الشروق إلى الغروب، كما كان الاحتقار هو الصفة التي لازمت تعامل الحراس مع الأسرة، حتى إن أحدهم دفع نجيب ذات مرة وضربه بمكان إصابته في الحرب، فأسرَّها في نفسه لعلمه أن لا حيلة له سوى ذلك، كما وضعت نقطة حراسة على سطح المنزل، مما جعلهم يستبيحون المنزل دخولاً وخروجاً وقتما شاءوا، وقد مُنعت عنهم الزيارات عدة سنوات في البداية، وعندما تم السماح بها كان لا بد من حضور أحد الضباط أثناء الزيارة ليسجل ما يدور بها، ما جعل نجيب يرفض تلك الزيارات بعد ذلك خشية أن تتم ملاحقة أقاربه ومراقبتهم وتعكر صفو حياتهم، وعندما ضاق ذرعاً بذلك اشتكى إلى عبدالحكيم عامر وغيره مراراً وتكراراً ولكن دون جدوى، والجدير بالذكر أنه تم نقله من معتقل المرج كما كان يُطلق عليه إلى مدينة طما في سوهاج عام 1956 استعداداً لقتله في حال نجح الإنجليز في دخول مصر، حيث سرت شائعات في ذلك الوقت عن نية الإنجليز إعادته لمنصبه، ولكن وبعد فشلهم وانتهاء العدوان تمت إعادته مرة أخرى إلى معتقله.
وبالرغم من تجرعه مرارة الذل والإهانة لسنوات فإن ذلك لم يثنِه عن واجبه تجاه وطنه فأرسل خطاباً لعبدالناصر عام 1967 يطلب فيه السماح له بالمشاركة في الحرب تحت اسم مستعار، ولكنه لم يتلقَّ رداً على ذلك، ولعل أكبر ظلم وبطش قد تعرض له مما هد قواه وقصم ظهره كان ما لقيه في أبنائه، حينما قُتل علي أحد أبنائه أثناء دراسته في ألمانيا عام 1968؛ حيث كان له نشاط سياسي لم ترضَ عنه المخابرات المصرية آنذاك، ولم يتم السماح له بوداعه ورؤيته للمرة الأخيرة عندما وصل جثمانه للدفن، وهو الأمر الذي لا مبرر له سوى تحجر القلوب (فشتان بين مشهد بكاء عبدالناصر بعد النكسة وما ارتكبه بحق تلك الأسرة المنكوبة)، ولم تلبث آلام الفقد أن تهدأ حتى فُجع بوفاة ابنه الأكبر فاروق الذي لم يتقبل تهكم أحد الحراس على والده فنشبت بينهما مشادة وعراك، مما أدى إلى اعتقاله لمدة خمسة أشهر تلقى فيها ألواناً من التعذيب ليخرج مريضاً بالقلب ويتوفى بعد فترة من خروجه، ولم يبقَ له من أبنائه سوى يوسف الذي تم فصله من عمله بأمر من عبدالناصر؛ ليضطر بعد ذلك للعمل كسائق أجرة على سيارة اشتراها بالتقسيط، وتوفي بعد والده بعدة سنوات.
ويقول محمد نجيب في كتابه (كنت رئيساً لمصر) الذي سجل به مذكراته: "لم يكن أمامي سوى أن أصلي وأن أقرأ القرآن وأتصفح الكتب لمدة 20 عاماً"، بالإضافة إلى تربية القطط والكلاب التي كان يجدها بديلاً لمن فقد فعندما مات أحد كلابه دفنه، وكتب على قبره: (هنا يرقد أعز أصدقائي)، وقد أفرج عنه الرئيس أنور السادات عام 1974 وأنهى إقامته الجبرية، ولكنه لم يخرج للشارع كثيراً، بالرغم من ذلك، وتوفي عام 1984 وتم تشيعه في جنازة عسكرية أمر بها الرئيس مبارك، وتم منح اسمه قلادة النيل في عام 2013 في أبسط رد لاعتباره بعد ظلم دام 60 عاماً، وهو الذي لن يكتمل إلا برد اعتباره في كتب التاريخ وتسطير إنجازاته وسيرته بما تستحق الوقوف عندها وبما يستحق هو.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.