تعودت تجاهل النقاشات التي تدور في وسائل المواصلات العامة، حتى إنني فقدت شغف الانصات بدون إبداء أي رأي مهما كان عدد المشتركين من حولي في الحديث، منشغلاً إما بالموبايل، أو شارداً في حالي.
كل هذا أصبح روتيناً يومياً منذ ما يزيد على عام ونصف عندما فقدت القدرة على تبادل أطراف الحديث مع غيري في الشأن العام، إما حرصاً من أذن الجدران، أو يأساً من الجدل العام.
إلى أن ركبت مترو الأنفاق قبل أيام متجهاً إلى محطة الدقي – المتاخمة لوسط العاصمة المصرية – لأجد شاباً يبدو على ملامحه الوقار وثيابه البساطة كان قد أنهى حديثه الهاتفي الذي يبدو أنه لم يعجب الرجل الخمسيني الجالس بجواره، الأمور بدت غامضة، حين انفجر الرجل: انتم ليه يا بني مش حاسيين بالمجهود اللي بيعمله الراجل (الرئيس)؟!
استغرب الجمع صوت الرجل الخمسيني في مواجهة شاب لم يكن يتحدث إليه بالأساس، ولا نعلم ماذا كان يقول في حديثه الهاتفي، ثم استطرد قوله: "يا أخي ما تبص شوية على الجرايد وشوف الأستاذ أحمد موسى والناس بتتكلم عن مجهود الرئيس لأجل سد طعامكم واحتياجاتكم بقرض صندوق النقد!!"
عند هذا، تحولت العربة إلى صراع ديكة، وكأنه حصاد لعامين حتى نطق أحدهم بـ"الاستقرار"!
كانت الكلمة الأخيرة لافتة للانتباه عندما صرخ الشباب حاكياً ظروفه، وهي لا تختلف عن أغلب المصريين من طلب الرزق حتى مصروفات زواجه الحديث وترتيبات الحياة الجديدة، مستطرداً: "غابت التظاهرات، لكن غابت أيضاً عجلة الإنتاج، التي كنا نتغنى بعودتها بعد فضها".
إلى هنا عادت ذاكرتي إلى دعوات الاستقرار لعودة الاستثمار وحركة السياحة التي تحولت لنشيد بالفصحى والعامية على كل البرامج الليلية بالفضائيات بعد ثورتي 25 يناير/كانون الثاني و30 يونيو/حزيران.
كان الشاب يحادث زوجته بأنه عائد خائب الأمل من كل شيء، ويبدو أنه وقع بكلمتين (تجاوز ممتعض) في حق النظام، وهو ما أثار سخط الجالس جواره.
لكن ما بقي في ذهني من هذا الحديث أن الرئيس يسعى لسد حاجات طعامنا بقرض صندوق النقد.. يبدو أن الناطق بعفوية قد أصاب كبد المسألة، إننا نحتاج لقرض لسد احتياجات جلها عاجلة، لا تنتظر حتى مشاورات الصندوق بعد عودة بعثته من القاهرة، لكن هل تستخدم الحكومة القرض ليصبح مرة أخرى مسكناً للداء بعد المساعدات العربية دون معالجة الخلل الصناعي والإنتاجي لدينا؟!
في تلك الأثناء وما قبلها وبعدها تبقى المعلومات الرسمية يشوبها شيء من الغموض؛ لأنك ببساطة ستجد الشيء ونقيضه: مع بداية حكومة المهندس شريف إسماعيل، كانت التصريحات الرسمية تستبعد التوجه للصندوق، لكن التطبيق على أرض الواقع يدل غير ذلك من تحريك أسعار الصرف، تقليص دعم الخدمات، وزيادة رواتب بعض الجهات حتى لا يصطدم بالإجراءات التقشفية التي يطلبها الصندوق.
الأرقام تقول إن مصر تلقت مساعدات منذ 30 يونيو/حزيران 2013 بنحو 23 مليار دولار، وذلك عندما أعلن وزير الاستثمار حينها أشرف سالمان خلال مؤتمر اقتصادي في دبي مارس/آذار 2015 أن "مصر تلقَّت 23 مليار دولار من الكويت والسعودية والإمارات على مدى 18 شهراً الماضية".
فيما تكشف خريطة الزيادات السعرية للسلع بحسب تقرير صادر مؤخراً عن البنك المركزي ارتفاع أسعار الدواجن خلال الـ6 أشهر الأولى من العام الحالي 2016 بمعدل 23.86%، وزادت اللحوم بمعدل 4.68%، وارتفاع الأسماك والأطعمة البحرية بمعدل 11.98%، وزاد الأرز بمعدل 47.49% خلال نفس الفترة، وزيادات أخرى كثيرة.
كل هذا يدل على أن هناك فجوة كبيرة بين الداخل للبلد كقيمة مساعدات وانعكاساتها على أرض الواقع، حتى إنك تقف معصوب الأيدي وأنت ترى تلك الزيادات في أسعار السلع والخدمات، فهل ينجح قرض الـ12 مليار دولار في إعادة التوازن للدولة للخروج من الواقع الراهن، أم يضيف صعوبات دين جديدة تتكبدها الشرائح الأدنى دخلاً.
تشير بيانات البنك المركزي إلى ارتفاع الديون لمستويات مفزعة؛ حيث وصل الدين الخارجي لمصر ليسجل 53.4 مليار دولار في مارس الماضي، ووصل الدين الداخلي لنحو 2.49 تريليون جنيه، وذلك في ظل برامج حكومية تجعلك حائراً هل تتبع الدولة توسعاً اقتصادياً متمثلاً في مشروعات ضخمة: العاصمة الإدارية التي يدفع المواطن فاتورتها.. أم أنت أمام تقشف اقتصادي مطالب بإلغاء دعم الوقود والسلع والخضوع لوطأة ديون جديدة بفوائدها؟!
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.