لم أعُد أطيق الانضمام إلى قوافل البكّائين في لطميات رابعة وشهدائها وأحداثها المفجعة، واجترار الذكريات وزرف دموع الحسرات، واستدعاء مشاعر الخوف والترقب والمحنة وحالة الدهشة والصدمة لهول ما شاهدت أو شاهد غيري في الحادث الجلل؛ لتبقى كل هذه الوقفات والذكريات والحكايات والقصص أشعاراً تروى على أطلال رابعة وشهدائها، وينتهي بنا الحال كعادة العرب قديماً: (قفا نبكي من ذِكرى حبيب ومنزل)، وتنتهي هذه الذكريات عند هذا الحد، فلا تصبح باعثاً في تغيير الواقع وإزالة الألم وتحقيق النصر المنشود بإعادة الحق المسلوب إلى أهله، والعدل الطريد إلى وطنه، والحرية الضائعة إلى شعبها.
ولكن أقف وقفة أمينة مع النفس والثورة والوطن، ماذا قدمنا لرابعة وشهدائها؟ وماذا قدمنا لمصر وثورتها وأحرارها؟
ففي الذكرى الثالثة للمذبحة تمر السنوات الثلاث التي كنا نظن كل الظن أنها كفيلة بإسقاط الانقلاب، وعودة الشرعية، ولأنني دائماً تعودت أن أكون أميناً في معالجة القضايا، حريصاً على التجرد من كل المؤثرات التي تجعل منا أسرى لها، وسدنة في معبدها، فإنني اليوم ألقي نظرة متجردة من كل مؤثر متحررة من كل رباط يدنس طهارة الحقيقة، ويقتلها في مهدها بسيف أهلية الزمان أو المكان، أو قدسية الأشخاص.
النظرة الأولى على مصر الوطن:
مصر التي عرفناها منذ أن دبت فينا الحياة على أرضها لم تعد كما كانت، بل تغيرت وتغير أهلها، تغيرت أفكارهم وتلاعب الانقلاب بثوابتهم، فلم يعد هناك خطوط دفاعية عن للهوية المصرية أو الثوابت الوطنية، أو حتي القيم الدينية والمجتمعية، ولكن أضحى الكل كلأً مستباحاً والتسطيح مستمراً، وقلب الحقائق وتشويه الثوابت يجري على قدم وساق، ووقع ما حذرنا منه مراراً وتكراراً فتوسد أصحاب الانحرافات وأبناء رحم الفساد زمام المجتمع كنتيجة حتمية للتفريغ المجتمعي من ممثلي القيم والقيمة داخل المجتمع المصري، بسبب سجنهم أو قتلهم أو تشريدهم، مما نتج وسينتج عنه تشويه حاد في العقائد والسلوكيات المجتمعية والهوية الدينية والوطنية.
الواقع الاقتصادي أصبح مؤلماً على مستوى الدولة والمجتمع والأفراد، فالدولة المصرية أفلست أو على وشك، فالدين الداخلي وصل، كما قال الخائن، إلى 2.3 تريليون جنيه، أي ما يصل إلى 97% من إجمالي الناتج القومي، ويسعى أيضاً لزيادة الدين الخارجي بـ12 مليار دولار؛ ليضع مصر وشعبها تحت رحمة البنك الدولي وسياساته المشبوهة التي تعيد للأذهان مصر وحالتها في أواخر عهد إسماعيل، حينما أفلست ووضعت ماليتها وخزانتها تحت وصاية المندوبين الفرنسي والإنجليزي؛ ليكونا القيمين على سياسات مصر المالية، وتوجيهها لسداد الديون على حساب الشعب.
والحالة السياسية ليست أفضل حالاً، فهي الأخرى أعلنت إفلاسها منذ زمن، وأصبحت حكراً على أوركسترا العزف على أوتار نجاحات وبطولات وإنجازات السيسي وانقلابه، ولم يعد هناك مساحة لصوت حر، أو رأي معارض، وتشكلت البيئة السياسية البرلمانية والحزبية من موالين للفساد والانحراف كأعمدة أساسية للسياسة المصرية الجديدة بعد الانقلاب.
النظرة الثانية على الثورة:
الثورة وما أدراك ما الثورة، فبعيداً عن أهازيج وأناشيد ومقالات وبرامج وقنوات وشيوخ وفضائيات بعض الحركات التي تعطي إشارات على أن الثورة لم تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولكن أين الثورة التي كنا نظن أنها قادمة لتعيد ميزان الحق وتقضي على الانقلاب.
فبعدما حدث الانقلاب في تركيا، وفشل وخرج الناس مهللين بعظمة الأتراك ونجابة رئيسهم، وعن ثورية الشعب ووعيهم، وكيف خرج هذا الشعب ليقطع طريق العودة بتركيا إلى خمسينات وستينات القرن المنصرم.
آثرت أن أتأمل ملياً العوامل الحقيقية لنجاح دحر الانقلاب التركي، وكيف يمكن استثمار هذه العوامل الناجعة وتوظيفها في صياغة حالة مماثلة في مصر، ولست أحاول عقد مقارنات بين رئيس ورئيس، أو شعب وشعب، ولكنني أحاول أن أستفيد من تجربتين ماثلتين أمامي؛ الأولى عايشتها وشاركت في تفاصيلها منذ بزوغ نجمها وحتى أفوله، والثانية راقبت مشاهدها ودققت في تفاصيلها كما دقق غيري، فلعلها كانت كغراب قابيل، جاء ليريه كيف يواري سوأة أخيه.
فبعيداً عن وعي الشعب التركي أو كاريزما الرئيس أردوغان ورصيد التجربة المتجذز في عقل ووجدان الشعب التركي أجدني أقف أمام نقطة فارقة هي السبب الرئيسي في نجاح الانقلاب المصري، وفشل الانقلاب التركي، ألا وهي:
التنظيم على الأرض وملء الفراغات المجتمعية، ووجود قيادات تنظيمية محلية قادرة على قيادة الجماهير في الأوقات العصيبة.
هذه النقطة هي المفتاح الرئيسي لنجاح أو فشل كلا الانقلابين:
فالانقلاب المصري كان يفطن من اللحظة الأولى إلى الأهمية المحورية لهذه النقطة، وقام بمعالجتها ببراعة شديدة كانت كالتالي:
1 – إقناع الرئيس مرسي بضرورة نزول الجيش لحماية المنشآت الحيوية والحيلولة دون تفاقم أعمال العنف المزعومة في 6/30.
2 – إقناع الرئيس ومن بعده الإخوان بضرورة وجود تجمعات شعبية مناصرة على مقربة من الأماكن الحيوية، وأماكن وجود الرئيس للتدخل في الأحداث حين تأزمها لإعفاء الجيش من القيام بردود فعل عنيفة تجاه المتظاهرين، فنعيد للأذهان سيناريوا قتل المتظاهرين إبان ثورة يناير/كانون الثاني، ولكن هذه المرة بأوامر الرئيس الثوري المنتخب مرسي، ولكن يمكن اختزال هذه الأحداث في صراع شعبي – شعبي بين مؤيدين ومناصرين، ويتدخل الجيش لفض الاشتباكات بين القوى الشعبية المشتبكة.
وهذه النقاط لم تكن تحليلات للحدث أو قراءة للمشهد، ولكن هذه كانت الرواية الرسمية المعتمدة التي بُني عليها اعتصام رابعة العدوية، وبالتالي تم جمع كل القيادات التنظيمية المحلية والعناصر الثورية المؤثرة والقيادات الجماهيرية المجتمعية البارزة وحشرها جميعاً في نقطة ضيقة في عقر دار القوات المسلحة المصرية؛ ليكونوا تحت السيطرة، ويخلو الشارع المصري من أقصاه إلى أقصاه من القيادات الجماهيرية المؤثرة التي كان من الممكن أن تحشد الجماهير في كل مكان، وتوسع رقعة الرفض، وتصنع حالة من التوازن، كما صنعت الجماهير التركية.
ولكن خلا الشارع المؤيد الذي وقف مع الديمقراطية والصندوق والحرية في خمسة استحقاقات، وحارب حتى تنجح ثورته من كل العناصر الفاعلة والمحركة له، التي ما كان دائماً ينضوي تحت لوائها، وأوكلنا الشارع إلى نفسه، ليس هذا فقط، ففي هذه اللحظات الحاسمة التي يصنع فيها الانقلاب شرنقته حول الشعب المصري، فاكتملت عناصر الخطة البارعة وخرج إلى الشارع القيادات والرموز الجماهيرية البائدة التي أسقطتها الثورة؛ لتقود مظاهرات في كل مكان تنكل بالرئيس وبالإخوان، وتثبت أركان الانقلاب.
وكانت هذه الاقتراحات مقدمة من الفريق السيسي ورجاله المخلصين إلى الرئيس مرسي، الذي كان يفاخر دائماً بأنهم جميعاً في جيبه، وأن ولاءهم له لا شك فيه، ولست بحاجة إلى حديث الشيخ القرضاوي عن تنبيهات أردوغان للرئيس مرسي بأن المعلومات التي لديهم (ويقصد المخابرات التركية) بخصوص السيسي ورجاله تخالف ما يوحي بها الرئيس مرسي، وأن الرجل خائن بكل تأكيد.
وأيضاً رواية أخرى مؤكدة من ثقات كنت لصيقاً بهم، وسمعتها مراراً وتكراراً قبل الانقلاب وبعده من برلمانيين التقوا الرئيس مرسي في العيد في منزله بالزقازيق، وسألوه بقلق عن السيسي وحجازي، وقال لهم كلمته المشهورة، وكان يرتدي جلباباً أبيض: "إن السيسي وحجازي في جيبه"، وأشار إلى جيب جلبابه.
ولكن أقولها وبكل صدق، شهادة حق في ذلك المكان الذي شهد دماء وتضحيات الأحرار والشهداء، بأنني في عصر يوم الأحد 30/6 المشؤوم، وقد كنت في اجتماع تحضيري لما سيتم عمله في ذلك اليوم مع بعض القيادات التي يفترض أنها لصيقة الصلة بصناعة القرار داخل مكتب الإرشاد، وكانت التوجيهات بأن يكون الناس على أهبة الاستعداد للخروج من الميدان من بعد أذان المغرب إلى أي مكان يتم تعيينه حال الضرورة، وأنهم سيسيرون في مجموعات على رأس كل منها مسؤول، والتوجيهات كالتالي "أن يفعلوا كما يفعل هذا المسؤول"، إن سار يسيروا، وإن وقف يقفوا، وأن انبطح انبطحوا وهكذا.
فقلت بهدوء هذه مشكلة كبرى أن يسير الناس مسافات طويلة للوصول إلى بعض الأماكن الحيوية، وأكثرهم ليس من أهل القاهرة، بل هم من الأقاليم، ولا يعلمون طرقها ولا شوارعها والأعداد كبيرة، واحتمالات التفرق وضلال الطريق أو فقد السيطرة أو المهاجمة من قِبل الآخرين واردة بقوة، وبالتالي هذه الحلول غير مجدية، ففي النهاية من سيصل إلى الأماكن الحرجة لن يكون إلا العدد القليل، انتهى اللقاء وخرجنا على ما كانت عليه التعليمات والتوجيهات، ولكن أصابني القلق، وانفردت بهذا المسؤول خارج الخيمة التي كانت على أعتاب شارع يوسف عباس، وسألته سؤالاً مباشراً:
كيف هي العلاقة بين الدكتور مرسي والسيسي حسب ما لديكم من معلومات؟
فأجابني الرجل بهدوء وبكلمات مقتضبة: "الدكتور مرسي يثق ثقة عمياء في السيسي، والرجل معنا قلباً وقالباً".
في حقيقة الأمر فاجأتني هذه الكلمات فلم أنبس ببنت شفة، ولكن صافحته بهدوء وعدت أدراجي إلى خيمتي؛ لأنقل لإخواني هذه التعليمات، وما هو دورنا الآن.
ولسنا هنا بمعرض محاكمة أشخاص أو نبش قبور الذكريات أو نكْء جراح الماضي، ولكن حينما نقيّم الثورة ومنحنيات أدائها نجد أنها وبصراحة شديدة تتجه نحو الموت والخفوت، وأصبحنا جميعاً نتعلق بأستار قدر الله وقد انفضت من بين أيدينا الأسباب، وننتظر يد الله التي تعمل في الخفاء؛ كي تعيد الحرية والعدل، وتقتص لدماء الشهداء عبر المحكمة الربانية.
فالثورة الآن في الداخل:
1 – مجموعات متناثرة من الأحرار والحرائر يخرجون في قرى ونجوع ومدن بين الفينة والأخرى؛ للتنديد بالانقلاب والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، وهم بين سندان الاعتقال ومطرقة المطاردات.
2 – أحرار ضاعوا في غيابات السجون أو يلاحقهم شبح المطاردة والاعتقال، فقدوا الأبناء والأهل، فترملت زوجاتهم ويُتم أطفالهم وهم أحياء.
والثورة الآن في الخارج:
1 – فضائيات تتناغم في أدائها أحياناً وتتباعد أحايين أخرى؛ لتقدم محتوى يحاول الوقوف أمام طوفان غسيل العقول وتشويه الحقائق وطمس البصائر وتغيير المعتقدات.
2 – مقالات وأغانٍ وأناشيد وفتاوى ودروس وأعمال فنية وصفحات اجتماعية تتحدث عن الثورة والانقلاب.
3 – أعمال فردية جليلة من بعض القامات الهامة، ولكن تفتقد العمل الجماعي المنظم والموجه ناحية الأهداف الثابتة.
والسؤال الأهم: ماذا تبقى من الثورة غير ذلك؟ وهل هناك غير ذلك يمكن أن يقدم لـ"رابعة" والثورة والوطن؟
الإجابة الحقيقية أن الثورة أو التغيير أو مهما كانت المسميات لا يمكن أن تحدث واقعاً يذهب بالأمم في اتجاه الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، إلا إذا كانت هذه الحركة وليدة شبكة اجتماعية مترابطة ومتماسكة واضحة المعالم، موجهة الأهداف، يعبر عنها بـ"جدار المعارضة المجتمعية"، وهؤلاء هم القيادات المجتمعية وليست السياسية البارزة التي تستخلص قوة الغضب وتوجهه ناحية الخلل مثلما حدث تماماً في ثورة الساعات الست التركية، فلا يمكن إغفال الدور المحوري لشبكة القيادات المجتمعية الوسيطة والمحلية والمتناثرة في كل مكان، والتي يجتمع حولها الناس كما يجتمع النحل حول ملكتهم.
فما أحوج ثورتنا في مصر إلى إعادة بناء جدار المعارضة المجتمعية الذي ينتهز فرصة هشاشة النظام وتداعيه، ويوجه الجماهير ناحية النقاط الأكثر ضعفاً وهشاشة في أركانه؛ ليسقط الانقلاب وتتغير المعادلة.
ولكن أمام حالة الانقسام والتشرذم في أكبر الكيانات المعارضة في مصر الإخوان المسلمين وحالة الانقسام الحقيقية التي يتعامل معها الجميع بأن يدسوا رؤوسهم في الرمال، ويغلقوا عيونهم وعقولهم عن واقع متردٍ يصيب الثورة المصرية في إصابات حرجة.
وجب علينا جميعاً نحن أبناء الدولة المصرية بكل أطيافنا وأفكارنا وأجنداتنا الوطنية أن نصطف معاً جميعاً لإعادة هيكلة الثورة وبناء جدار المعارضة المجتمعية في الداخل المصري والخارج العالمي.
ولكن ماذا قدمنا لرابعة وشهدائها؟ وماذا قدمنا لمصر وثورتها وأحرارها؟
فالإجابة على هذا السؤال من وجهة نظري:
1 – إنهاء حالة الانقسام في الكيان الأكبر للمعارضة المصرية وإنهاء حالة القوامة على الحركة والتنظيم، ووقف إهدار الطاقات والإمكانات في غير الأولويات، وتخوين البعض وغياب المشروع، وضبابية سيناريوهات الحلول المستقبلية.
2 – إعادة تشكيل كيان حزب الحرية والعدالة من جديد في الخارج والداخل وفق انتخابات وبرنامج وخطاب جديد يضع في الاعتبار كل المستجدات السياسية والمجتمعية، ولا يقف على أعتاب الماضي.
3 – إعادة بناء جدار المعارضة المجتمعية في الداخل المصري، وجدار المعارضة السياسية في الخارج العالمي.
4 – التركيز على الأحداث المفصلية في تاريخ الثورة المصرية، التي تتوافق حولها القوى المجتمعية والسياسية:
• كثورة يناير وأهدافها العظيمة.
• مذبحة رابعة العدوية.
• ملف المعتقلين السياسيين.
• الحريات.
• الاقتصاد وتدهوره.
5 – الكف عن تقديم بدائل غير واقعية وحل كل المسميات كبرلمان الشرعية والوزير الشرعي وخلافه، وإعادة السلطة والحق للشعب المصري في تشكيل مستقبله السياسي بعيداً عن الماضي بأخطائه وصوابه.
6 – تقديم حلول واضحة لمرحلة ما بعد السيسي لا تتضمن عودة الرئيس مرسي ولا توصف بأنها تنازل عن الشرعية.
7 – تقديم موقف المعارضة المصرية الحالية للانقلاب من كثير من الموضوعات الشائكة التي استطاع الانقلاب تشويه الثورة من خلالها مثل:
• تداول السلطة واحتكارها.
• ارتباط تنظيم الإخوان بأجندات عالمية وفكرة الخلافة والخروج بعيداً عن الساحة المصرية، وهذا هو خطأ أربكان الاستراتيجي الذي تمثل بربط تركيا الهشة في عهده بأفكار أكبر من حجم تجربته، وهو ما تداركه أردوغان في مشروعه، ولم يذهب نحو عالمية الفكرة إلا بعد سنوات كثيرة من رسوخ ونجاح مشروعه.
8 – إعادة تنظيم الإعلام المعارض تبعاً لأجندة واضحة الأهداف والمعالم، وليس تبعاً لتجارب فردية بحيث تعبر الفضائيات والصحف المعارضة عن وجهات نظر متقاربة في ضرب ثوابت الانقلاب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.