عندما تدفعك الجريدة للحرب

لا أحد بمقدوره مقاومة عجلة الظلم تلك، فلا أحد يستطيع أن يقاوم طوال حياته، إنها تلك الحجة التي نعيش بها في مدينة الغواية، حين تنصب القوانين لحماية الرذيلة، والصحيفة هي أول من تناصر ذلك وتدافع عنه، الحرب النفسية والعقلية التي تخدع بها المواطن، لا تصدق أن الصحيفة ـ أية صحيفة ـ هدفها الثقافة، الوطنية، الفضيلة، أو أي من تلك الأوهام الفارغة من الحقيقة، إن هدف الصحيفة الأول هو بيع الصحيفة، هو المكسب، هو اتباع الأوامر.

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/15 الساعة 05:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/15 الساعة 05:48 بتوقيت غرينتش

المدينة هنا مستباحة، تتسلل وسط العنف والجنون، عنف السلطة وجنون الجماهير، الوطن يتآكل فلا تتشابه الأيام والسنون، السجون هنا تغدو لها رائحة الموت، إن تبلد المشاعر أمام مشاهد الفظائع هنا هو اغتيالنا الحقيقي.

أنا لا أعتقد بأن مشكلات الحاضر هي بالضرورة مشكلات مالية، بل هو الافتقار العام للقيم، جميعنا الآن نجلس بغرف انتظار مغلقة، وليس لدينا أي فكرة عما سيحدث حين ينفتح أخيراً ذلك الباب.

لا أحد بمقدوره مقاومة عجلة الظلم تلك، فلا أحد يستطيع أن يقاوم طوال حياته، إنها تلك الحجة التي نعيش بها في مدينة الغواية، حين تنصب القوانين لحماية الرذيلة، والصحيفة هي أول من تناصر ذلك وتدافع عنه، الحرب النفسية والعقلية التي تخدع بها المواطن، لا تصدق أن الصحيفة ـ أية صحيفة ـ هدفها الثقافة، الوطنية، الفضيلة، أو أي من تلك الأوهام الفارغة من الحقيقة، إن هدف الصحيفة الأول هو بيع الصحيفة، هو المكسب، هو اتباع الأوامر.

تلك الجرائد التي نتكلم عنها لا تفرق بين الخبر والجرح! كل صباح يستيقظ الصحفي وزملاؤه لينشروا نبأ الموت كخبر مثير، ونحن الشعب المتعاطف بطبيعته، الصحفي هو الذي ينشئ جمهوره سياسياً، اجتماعياً، عقلياً ونفسياً كما يُطلب منه.

كل شيء هنا محكم جيداً بطريقة أو بأخرى، جميع الناس يتبعون القواعد، وجميع الناس أيضاً تعساء، أي محاولة لتحرير عاطفة الشعب من العبودية، يصرخون "لماذا أنت؟" أنت لست أفضل منهم، وتبقى الحقيقة الحاضرة اليوم، تتخذ لها ثوباً أسود غامضاً ومخيفاً. اختفت مهمة الجريدة في أن تخبر الناس بما هم عليه، أن تقول للناس "هذا ما أنتم عليه".

تزايدت عدائيتنا من خلال ما نتناوله من مشاهد الاغتيال النفسي في الصحف اليومية، أصبحت خصومتنا لأنفسنا هي القنبلة التي تنفجر حولنا في كل مكان، منذ اللحظة التي نختصم فيها مع أنفسنا، نحن نعلن حرب العداوة مع العالم المحيط بنا، إنّ الإحساس بالناس وبألم البشرية هو جوهر الحضارة، إن من ينتصر لمقتل أخيه، لا يكره أخاه، وإنما يكره نفسه، نحن في الحقيقة نحاول أن نثأر لأنفسنا من مشاهد القتل، التعذيب، ومن الخوف المرتجف داخل المحيطين بنا، والنتيجة أن كل شخص فينا معتقل من الداخل.

خلال السنة الماضية، كان الجميع يشاهدون نفس مشاهد القتل على سبيل المثال. وأنا هنا لا أتحدث عن مسلسل "صراع السلطة" وإنما عن دراما مرعبة وحقيقة، وقد أثبتت أنها رائعة جداً بحيث لا يمكن إيقافها. إنه عرضٌ أنتجه السفاحون وقد تم نشره حول العالم عبر الإنترنت، إن العناوين الرئيسية للأخبار تؤيد المذابح الدموية وكأنها حق مشروع، حق مشروع يراد به تخليص الشعب من مخاوف إرهابية، لأن كل طرف في القصة هو عدو، والعدو يستحق الحرق، الشنق أو التعذيب حتى الموت.
وهنا تكمن المفارقة. لأننا نعتقد أن عمليات القتل لا علاقة لها بنا، حتى عندما نقوم بمشاهدتها على الشاشة.

الآن كيف يدرك المشاهد الحقيقة وهو ذاته معتقل؟
على سبيل المثال: في مايو من عام 1820، تم تنفيذ حكم بالإعدام على خمسة رجال اشتهروا باسم متآمري كاتو ستريت في لندن وذلك بتهمة التآمر لاغتيالهم أعضاء في الحكومة البريطانية. كانوا معلقين ثم تم قطع رؤوسهم. كان المشهد بشعاً. تم إسناد رأس كل واحد منهم إلى الوراء بالتناوب وإظهاره للحشد. و100 ألف شخص، يزيدون بـ10000 عن الطاقة الاستيعابية لملعب ويمبلي، وقد قدموا لمشاهدة ذلك. واكتظت الشوارع. قام الجميع اجتياح النوافذ وأسطح المباني. قام الناس بتسلق العربات والمركبات في الشوارع. كما قاموا بتسلق أعمدة الإنارة. وقد كان معروفاً أن الكثير يلقى حتفه في أيام تنفيذ الإعدام بسبب التدافع.

وتشير الأدلة أنه على طول تاريخنا في تنفيذ عمليات قطع الرؤوس العامة والإعدامات العلنية، تكون الأغلبية الساحقة من الشعب الذين يأتون لرؤيتها إما متحمسون وإما لامبالون، في أحسن الأحوال. وقد كان الشعور بالاشمئزاز نادراً نسبياً، وحتى عندما يكون الناس يشعرون بالاشمئزاز والرعب، لا يمنعهم ذلك من الحضور المتكرر ومشاهدة مثل هذه الأمور.

هذا الشعور بالانفصال -عن الآخرين وعن الحدث نفسه- يبدو أنه المفتاح لفهم قدرتنا على المشاهدة. وفي عصرنا الحالي حيث توجد عدة طرق خلق فيها الإنترنت والصحف الإلكترونية شعوراً بالانفصال ويبدو كأنه قام تدريجياً بتدمير المسؤولية الأخلاقية للفرد. تعتبر أغلب نشاطاتنا على شبكة الإنترنت مناقضة للواقع، كما لو أن ما نقوم به على الإنترنت يبدو بطريقة ما أقل واقعية. نشعر بأقل مساءلة عن أفعالنا عندما نتفاعل على الإنترنت. هناك شعور بعدم الكشف عن الهوية، والشعور بالتخفي، لذلك نحن نشعر بأقل مساءلة لسلوكنا. كما سهّل الإنترنت البحث عن بعض الأمور بشكل غير مقصور، عن الأشياء التي نتجنبها في الحياة اليومية عادةً.

أنا هنا لا كي أقول لكم انصروا الإنسانية، ولكن كي أقول لكم أحبوا أنفسكم بصدق، فبدون ذلك لن تصبح محبة الغير ممكنة، تلك الهدنة التي يتصالح فيها الإنسان مع نفسه هي الضوء.
إن مسيرة النضال هي ذاتها مسيرة المعرفة، ولعل المقاومة هي انتصاراتنا الصغيرة للحفاظ على حقنا
"الشعوري" بالحياة.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد