كلف السيد الباجي قايد السبسي، رئيس الجمهورية التونسية (الشيخ التسعيني وأحد أكبر الرؤساء في العالم)، الأسبوع الماضي، السيد يوسف الشاهد كأصغر رئيس حكومة في العالم العربي، فقد رأى السيد الرئيس في هذا الشاب الخجول المطيع الذي اصطفاه ليجعله إحدى أذرعته وأحد التابعين له ولنجله، رجل المرحلة والمستأمن على حكم العائلة، فهو كما قِيلَ رجل المهمات الخاصة لدى رئيس الجمهورية والمقرب من تخوم الأسرة وعالمها.
هكذا وبمباركة الشيخَين (السبسي والغنوشي) أصبح الشاهد المولود في 18 سبتمبر/أيلول 1975 أصغر سياسي يُكلَّف بترؤس حكومة في تاريخ تونس، ورغم قصر نشاطه السياسي خلال السنوات الأخيرة، فقد تنقّل في ظرف ثلاث سنوات بين أربعة أحزاب، أولها تأسيسه حزب "الوفاق الجمهوري"، وانضم لاحقاً إلى "القطب الديمقراطي الحداثي" (ائتلاف أحزاب يسارية) سنة 2011، ثم الحزب الجمهوري سنة 2012، وأخيراً حزب نداء تونس سنة 2013، وعلى مستوى المناصب الحكومية.
فقد تولى الشاهد خطة كاتب دولة في حكومة الصيد الأولى سنة 2015، ثم وزيراً للشؤون المحلية في حكومة الصيد الثانية سنة 2016، وحالياً هو المكلف برئاسة الحكومة، وهذا الصعود التراتبي في المناصب كان بدفع أساسي من قريبه رئيس الجمهورية السبسي؛ حيث يمثل، من جانب آخر، وجود علاقة من جهة المصاهرة المخفية بين السبسي والشاهد، هاجساً تواجهه الطبقة الحاكمة في ظلّ تزايد مخاوف المعارضة من "حكم العائلة"، خاصة أن المتنفذ الأول في حزب نداء تونس الحاكم هو كذلك نجل رئيس الجمهورية، كما ذكّر البعض الآخر بانتماء الشاهد إلى عائلات "أرستقراطية" تونسية، من العائلات التي تواترت على مناصب الحكم في تونس منذ زمن بورقيبة، وهو الأمر الذي يزعج جزءاً من التونسيين منذ عقود.
لعلّ الأمور الأكثر ريبة وإزعاجاً هي التي تتعلق بالمسيرة المهنية للشاهد كما عنون موقع نواة الاستقصائي؛ حيث كشفت وثيقة من "ويكيليكس" أنه عمل قبل الثورة في قسم الخدمات الزراعية الخارجية في السفارة الأميركية بتونس، وهي سابقة أولى في تونس، وربما في الوطن العربي، أن يتولى رئاسة الحكومة موظف سابق لسفارة أجنبية.
وتورد السيرة الذاتيّة للدكتور يوسف الشاهد أنه اختص منذ سنة 2003 بمتابعة السياسات الفلاحية بتونس والمغرب بالتنسيق مع وزارات الفلاحة بالبلدان المذكورة، وتولى وضع وتخطيط سياسات التعاون في ميدان الأمن الغذائي وتطوير الشراكة الفلاحية بين تونس والولايات المتحدة، كما اشتغل على إنجاز المشاريع الفلاحية والدعم التقني، إضافة إلى اشتغاله على تطوير الشركات التعاونية في تونس، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، وتدريب إطارات ديوان الحبوب التونسي.
لكن كشفت وثائق ويكيليكس جانباً آخر من السيرة الذاتيّة لرئيس الحكومة المكلف، الصورة التي تمّ تداولها خلال الساعات المنقضية حول السيرة الأكاديمية والمهنية ليوسف الشاهد، تغفل المنصب الذّي شغله يوسف الشاهد، والذّي تمّ إخفاؤه عن مختلف وسائل الإعلام، تكشفه مراسلة منشورة على موقع ويكيليكس وصادرة عن السفارة الأميركيّة في تونس بتاريخ 13 يناير/كانون الثاني 2010.
هذه الوثيقة المسرّبة تكشف جهوده كممثل للولايات المتحدة الأميركيّة لإقناع السلطات التونسية بالمضيّ قدماً في تبنّي وتسويق واستخدام التكنولوجيا الحيويّة في الزراعة في تونس. المراسلة ذاتها تحذّر من إمكانية تلكؤ السلطات التونسية في تطبيق هذه السياسة بضغط من الشركاء التقليديين لتونس من دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يكشف في جانب منه خفايا الصراع الأميركي – الأوروبي على تدعيم النفوذ السياسي والاقتصادي على الساحة التونسية.
كما تفضح الوثيقة كما جاء في موقع نواة للصحافة الاستقصائية النّيّة المبيّتة للسّفارة، الّتي تروم الدّفاع عن مصالح بلدها، ليس فقط لاختراق المجتمع السّياسيّ والمدنيّ فحسب، بل أيضاً لاستغلال الفجوات الموجودة في الإطار القانونيّ والتّشريعيّ الّذي ينظّم قطاع التّقانات الحيويّة في تونس من أجل تحويل تونس إلى سوق مفتوحة للمنتوجات الأميركيّة في مجالات التّقانات الحيويّة بما يضرّ بالمصلحة العليا لتونس وأمنها القوميّ، وهو ما يفضح عدم احترام الولايات المتّحدة الأميركيّة للمعاهدات والاتّفاقات الدّوليّة وازدراءها لمصالح الدّول والشّعوب وفقاً لأيديولوجيّتها الرّأسماليّة الّتي تعنى أوّلاً وآخِراً بفلسفة الرّبح السّريع وخدمة لوبيّات الصّناعات الغذائيّة والحيويّة.
ما يحدث في تونس هو جزء من العملية الاقتصادية العالمية التي تدمّر حياة الناس من خلال التلاعب المتعمّد بقوى السوق.
وما اختيار السيد يوسف الشاهد الموظف السابق لدى سفارة الولايات المتحدة حامل صفة "الليبرالي" وتعيينه على رأس الحكومة إلا بهدف تطبيق إصلاحات "موجعة" يطالب بها صندوق النقد الدولي لإخضاع الاقتصاد التونسي مجدداً إلى "البرامج الإصلاحية" للصندوق الذي يعمل وفق قواعد عمل تحدّدها مراكز النفوذ والقوى المالية والمجموعات الاقتصادية ومنظّرو أجندة السوق الحرة النيوليبرالية، ففشل الحكومة الحالية ومن ورائها الرباعي اليميني الحاكم في الخروج من الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي تعيشها البلاد منذ أكثر من خمس سنوات والتي تزداد ارتداداتها الاجتماعية عنفاً وقسوة، لم يدفع رئيس الجمهورية وطاقمه إلى التفكير في نجاعة منوال التنمية والخيارات الاقتصادية التي تتبناها الدولة حتى قبل الثورة.
فتردّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الجهات الداخلية واتساع خارطة الفقر وتآكل الطبقة الوسطى، وتواصل تضخّم الأسعار وأعداد المعطّلين، لا تعود بالأساس لفشل أسماء فريق حكومي بعينه بقدر ما هي نتيجة حتمية لخيارات اقتصادية ليبرالية موحشة فرضتها سلطة المانحين الدوليين الذين سبّبوا ضرراً لعددٍ من الناس في العالم ليس بوسع أيّ جيشٍ غازٍ أن يضاهيه، (فالإمبريالية "السلمية" مُميتةٌ كما هو وجهها الآخر: الحرب، وذلك على الرغم من البريق الإنسانوي الذي يحبّ الليبراليون كساءها به) البروفيسور جيل غيير.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.