تنفس المعارضون السوريون في الداخل والخارج الصعداء مع ساعات الفجر الأولى لليلة 15يوليو/تموز بعدما تبين فشل المحاولة الانقلابية وانتصار الشرعية وعودة الأمور إلى نصابها.
سبق المحاولة الانقلابية ما يشبه الانعطافة في السياسة الخارجية التركية التي سارعت لتطبيع علاقاتها مع روسيا وإسرائيل بعد أن تم التمهيد لذلك عبر تصريحات رسمية -صادرة عن أعلى المستويات- لم تستثنِ مصر وسوريا، وذلك على وقع شعور صانع القرار التركي بعزلة البلاد وتكاثر أعدائها، لاسيما بعد عودة المواجهات مع حزب العمال الكردستاني وتنامي الأعمال الإرهابية التي كان أخطرها هجمات مطار إسطنبول في 28 يونيو/حزيران الفائت وضعف السياحة والركود الاقتصادي واستمرار الحرب في سوريا دون بارقة أمل بما تحمله من مخاطر على الأمن القومي التركي، إن من جهة تسلل العناصر الإرهابية عبر المناطق الحدودية التي تسيطر داعش على أجزاء واسعة منها، أو من جهة التمكن الكردي الصاعد في سورية مدعوماً -على نحو لا يخلو من مفارقة- من قطبين وغريمين سياسيين؛ روسيا والولايات المتحدة.
وكما تساءل السوريون بقلق عن المدى الذي يمكن أن تصله مروحة التطبيع، تساءلوا أيضاً على الفور بعد انقشاع غبار الواقعة الانقلابية عن التوجهات المستقبلية للسياسة التركية تجاه سوريا وعن انعكاسات المحاولة الانقلابية على الملف السوري، ذلك أن الموقف التركي تجاه الثورة السورية يعد بالغ الأهمية في تقرير المسار الذي ستسير عليه الأمور.
تفاوتت الآراء والتكهنات حول مآلات الموقف التركي بعد فشل الانقلاب، فمن جهة ذهبت بعض التقديرات إلى انكفاء تركيا على نفسها وانشغالها بترتيب شؤونها الداخلية واستكمال مسيرة التهدئة مع الخارج، خصوصاً أن معالجة تداعيات المحاولة الانقلابية سيتطلب إصلاحات عميقة وتغييرات جذرية وإعادة هيكلة مؤسسات حساسة كالجيش والمخابرات وتطهير أجهزة القضاء والشرطة والتعليم، وهو ما يستلزم تكريس الجهد والوقت على حساب القضايا الخارجية التي ستشهد مرونة تركية وتخفيفاً للاحتقان وتخفيضاً للسقوف وجنوحاً للتسوية.
من جهة ثانية، رأت تحليلات أخرى أن محورية الملف السوري لدى المسؤولين الأتراك واعتباره بمثابة مسألة داخلية نظراً لامتداداته وتشعباته في العمق التركي، سيدفع تركيا نحو الإبقاء على ذات المقاربة التي اعتمدتها طيلة السنوات الخمس منذ اندلاع الثورة السورية دون أي تغيير
.
في الواقع حصلت -في فترة ما بعد الانقلاب- تطورات متسارعة يمكن إيجازها بـ: 1) سرعة واتساع عمليات تصفية وتطهير المؤسسات التركية المتورطة في الانقلاب والغطاء الشعبي الكبير الذي حازته والسلاسة التي جرت بها دون أي ارتدادات سلبية تكهن بها البعض. 2) وتزامن مع ذلك فك جبهة النصرة ارتباطها بالقاعدة وتخليها وفقاً لما أعلنت عنه عن أي ارتباطات خارجية، بما يعنيه ذلك من تشويش محتمل على الاتفاق الروسي الأميركي لاستهداف النصرة وإفساح المجال أمام تحالفات عسكرية فعالة على غرار جيش الفتح. 3) انطلاق عملية عسكرية واسعة لفك الحصار عن القسم الشرقي من مدينة حلب الذي يسكنه قرابة 400 ألف مدني، حيث يستحيل افتراض عدم تدخل الجانب التركي بهذه العملية أو على الأقل موافقته عليها.
تشير هذه المعطيات وغيرها مثل التصريح الغني بالدلالات الذي قاله رئيس الوزراء التركي غداة الانقلاب حول أن جيش الأسد وحده من يقتل المدنيين تعليقاً على إطلاق الانقلابيين النار على المتظاهرين العزل في إسطنبول وأنقرة، إلى أن الإدارة التركية عازمة على الاستمرار بسياستها السابقة تجاه سوريا، من حيث تقديم الدعم لفصائل المعارضة المسلحة ومن حيث تعاونها مع الأطراف الفاعلة الأخرى في الصراع السوري لتنسيق الجهود، وصولاً إلى حل سياسي، من دون التخلي عن هدف أنقرة النهائي بتحقيق تغيير حقيقي في دمشق، على أن يترافق ذلك مع سياسة داخلية صارمة -لا تراعي التحفظات الغربية- تجاه الانقلابيين وأذرعهم في كافة مفاصل الدولة. وفي خضم ذلك تدل الوقائع على مواصلة أنقرة أسلوبها السابق في إحاطة خلافاتها مع إيران وروسيا في الشأن السوري ومحاصرة تداعياتها ومنع وصولها إلى صعيد العلاقات الثنائية، وهي السياسة التي درجت عليها تركيا طيلة الفترة السابقة، وفق ما يمكن تسميته بسياسة فصل الملفات، مع مزيد من الحذر مستقبلاً لتجنب حصول كل ما من شأنه تعكير العلاقات خارج الموضوع السوري، كما حصل في حادثة إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والتي سربت السلطات التركية حولها خبراً لا يخلو من دلالة عن كون الطيار التركي الذي أسقطها كان من عداد الانقلابيين، في محاولة لتأكيد التطبيع وطي صفحة الخلاف عبر نفي المسؤولية وتلزيمها بالمجموعة الانقلابية.
وعلى الرغم مما حصل مؤخراً من التباس في التصريحات الأميركية حول "حدة" الإجراءات التركية في أعقاب المحاولة الانقلابية وحول كونها قد طالت حلفاء موثوقين في الجيش التركي، فإنه من غير المتوقع أن تشهد العلاقات بين البلدين مزيداً من الفتور الذي شهدته الفترة السابقة على ضوء اختلاف أولويات البلدين في المسألة السورية ودعم الولايات المتحدة لحزب الاتحاد الديمقراطي. لكن بالمقابل سينجم عن تصفية حكومة العدالة للانقلابيين الذين تجمعهم صلات جيدة مع الولايات المتحدة، سواء كانوا من الكتلة الأتاتوركية أو من جماعة غولن، مزيد من الاستقلالية لدى صانع القرار التركي وهو ما سيعود -مضافاً إليه حالة الإجماع الوطني الفريدة التي تجسدت في مظاهرات صون الديمقراطية – بالنفع على القضية السورية من جهة إزالة العوائق وحرية الحركة وفسح المجال أمام مقاربات تركية مسنودة شعبياً وأكثر تلبية لمصالح البلاد القومية وأقل التزاماً بمصالح الجانب الأميركي وخطوطه الحمراء.
أما فيما يتعلق بالعلاقات الروسية التركية فمن الواضح أنها تتجه نحو إنهاء حالة القطيعة التي سادت منذ نوفمبرالماضي، معززةً بوجود مؤشرات -أكبَرَتْها تركيا- على أن روسيا لم تكن مطمئنة للمحاولة الانقلابية انطلاقاً من قراءة موسكو لها باعتبارها إجراءً نفذته قوى وثيقة الصلة بالولايات المتحدة، الأمر الذي قد ينعكس إيجاباً على الملف السوري من حيث سعي الطرفين لاعتماد مقاربات ورؤى تزيل حالة التوتر وتدفع نحو توافقات وتسويات لمحطات الخلاف، لاسيما بعد تسرب معلومات موثقة عن حضور الملف السوري على رأس قائمة جدول الأعمال في اللقاء المرتقب الذي سيجمع الرئيسين التركي والروسي اليوم الثلاثاء (9 أغسطس/آب) في مدينة سان بطرسبورغ.