في هذه الحياة ثمة عالم مذهل، حيث كل ما نتصوره حول الواقع وما ندركه حول الطبيعة خاطئ، وحيث أعادت قوانين هذا العالم صياغة طريقة فهمنا بشكل جديد ومدهش: إنها قوانين الكم في العالم الصغروي.
إن قوانين هذا العالم على غرابتها، إلا أنها ليست تخيلات أو هرطقات أو مدونات شعرية لا تسمن في دنيا العلم ولا تغني من جوع، بل هي حقائق أكدتها المعادلات الرياضية والتطبيقات العملية في شتى مجالات الحياة..
على الرغم من ذلك، ما انفكت فيزياء الكم أن توجه الضربة تلو الأخرى لحس البداهة والمنطق السليم، حيث إنها تتحدى المنطق الأرسطي بركائزه الثلاث: الهوية وعدم اجتماع النقيضين ومبدأ الثالث المرفوع. يقول العالم والفيزيائي الدنماركي والأب الروحي لفيزياء الكم نيلز بور: أي شخص قرأ نظرية الكم ولم تصبه الدهشة فهو لم يفهمها.
ترتكز النظرية الكمومية على مفهومين أساسيين: الأول هو مفهوم التراكب، والذي يعني أن الجُسيم يمكن أن يأخذ حالتين أو أكثر في نفس الوقت، وأن عملية القياس أو الرصد هي التي تدفعه لأن يأخذ حالة واحدة لا غير، فالإلكترون مثلاً يمكن أن يوجد في أكثر من مكان في نفس الوقت، وعندما نقوم برصده ستختفي كل الاحتمالات وسيتعيّن الإلكترون في مكان واحد..
لفهم هذا الأمر جيداً لا بد من التطرق إلى تجربة الشق المزدوج، والتي حاول العلماء من خلالها أن يفهموا طبيعة الإلكترونات.
لو قمنا بإطلاق مجموعة من الإلكترونات نحو شاشة حساسة تستقبل هذه الإلكترونات، ووضعنا بين الشاشة ومدفع الإلكترونات لوحاً فيه شق صغير على شكل مستطيل طولي، وأطلقنا الإلكترونات من المدفع، فإنها ستمر من الشق وتكمل طريقها إلى الشاشة لترسم شكلاً مطابقاً لشكل الشق في اللوح الذي في المنتصف. أي أن الإلكترونات ستتشكل على الشاشة خلف الثقب التي مرت منه تماماً.
يبدو الأمر طبيعياً إلى الآن على اعتبار أن الإلكترونات هي جسيمات يمكن تشبيهها بكرات البيسبول وهي بالتالي تسلك سلوك المادة.
سنقوم بعد ذلك بوضع شقين متجاورين في اللوح بدل الشق الواحد ونعيد إطلاق الإلكترونات، وهنا سنلاحظ شيئاً غايةً في الغرابة، بدل من أن ترسم الإلكترونات على الشاشة حزمتين خلف الثقبين تماماً كما هو متوقع، فإنها سترسم على الشاشة حِزَماً من الإلكترونات المتفاوتة الشدة، حيث تكون كثيفة في الوسط وأقل كثافة في الأطراف، هذا الشكل يعرف فيزيائياً بظاهرة الحيود التي تحدث للموجات عندما تتداخل. بمعنى آخر فإن الالكترونات تصرفت كالموجات وليس كالجُسيمات.
الأدعى إلى الدهشة هو أنه إذا قمنا بإطلاق الكترون واحد فقط باتجاه الحاجز ذي الثقبين المتجاورين، فستحدث نفس الظاهرة، وهو ما يعني أن الإلكترون الواحد قد سلك سلوك الموجة ومرّ عبر الثقبين في نفس الوقت، وهذا ما يعرف بالموجة الاحتمالية.
لم يستسغ العلماء هذه النتيجة، إذ إنه كيف يمكن للإلكترون أن يمر من الشقين في نفس الوقت؟ وكيف يمكن له أن يوجد في كل الأماكن في نفس الوقت؟ قاموا بإعادة التجربة ووضعوا عدسة راصدة عند إحدى الشقين، لرصد الإلكترون ما سيمكنهم من رؤية ما إذا كان قد مر من هذا الشق أم لا، وهنا كانت المفاجأة. استطاع العلماء رصد مرور الإلكترون من الشق أو عدمه، ولكن تشكل على الشاشة الخلفية في تلك التجربة خطان متوازيان فقط يمثلان الشقين..
لقد توقف الإلكترون عن سلوك الموجة وتحول إلى سلوك المادة عند مراقبته، لقد أدرك الإلكترون أنه يتعرض للرصد والمراقبة فألغى موجته الاحتمالية وتعيّن في مكان واحد فقط، بعد أن كان موجوداً في كل مكان في نفس الوقت.
إنه لأمر عُجاب، هل من المعقول أن الإلكترون استطاع أن يكون في أكثر من مكان في الوقت نفسه ثم إنه أحس أن هنالك من يراقبه فسلك عندها سلوك المادة بدلاً من سلوك الموجة؟ هل هذا يعني أن المادة تسلك سلوكها فقط لأن هنالك من يراقبها؟ هل حقيقة الأشياء التي حولنا مرتبطة برهافة وَعْيِنا وإدراكنا ورصدنا لها؟ ما معنى المراقبة والرصد أساساً؟ ومن هو المراقب؟.. أسئلة كثيرة لا تزال تشغل العقول، وفتحت أبواباً كثيرة وتساؤلات فلسفية في محاولة لإعادة صياغة فهمنا للواقع.
نعود إلى التراكب الكمي، بالنسبة لـ نيلز بور، فالقياس يغير كل شيء، أي أنه قبل أن ترصد الإكترون مثلاً في تجربة الشق المزدوج فبإمكانه أن يكون تقريباً في كل مكان في نفس الوقت مع مدىً واسع من الاحتمالات حتى اللحظة التي تراه فيها أو ترصده فيها، فإنه سيتعين وستختفي حالة عدم التأكد من مكانه، فعملية القياس تجبر الجسيم على التخلي عن كل الأماكن المحتمل أن يكون فيها وأن يختار مكاناً محدداً حيث ستجده. لم يقتنع ألبرت أينشتاين بهذه المقاربة ورفضها بشدة، وقال جملته الشهيرة باستهجان: ألا يوجد القمر في مكانه عندما لا أنظر إليه؟!
حاول العالم النمساوي أدفين شرودنغر شرح ما توصل إليه بور عن طريق تجربة ذهنية شهيرة تدعى قطة شرودنغر. تخيل أنه قد تم وضع قطة داخل صندوق، ومعها جهاز يصل بين مادة مشعة وغاز السيانيد السام، عندما تتحلل المادة المشعة فسوف ينطلق الغاز السام ويقتل القطة. الآن سنغلق الصندوق، وسنتساءل قبل فتحه هل القطة حية أم ميتة؟ في مجال الحس المشترك والمنطق السليم، فإن القطة إما أن تكون حية وإما أن تكون ميتة، أما في عالم الكم فإن القطة ستكون في حالة تراكب أي أنها حية وميتة في نفس الوقت من خلال تراكب بين دالتين موجتين: الأولى (الذرة لا تتحلل/القطة حية) والدالة الموجية للحالة الأخرى (الذرة تتحلل/القطة ميتة). وعندما نفتح الصندوق ونشاهد ونرصد داخله فان الدالة الموجية ستنهار وستأخذ حالة واحدة إما حية أو ميتة.
أرّقت هذه النظرية رأس ألبرت أينشتاين وحاول أن يطعن بها، وظل يبحث في ذلك حتى وجد ثغرة في المفهوم الثاني الذي ترتكز عليه النظرية الكمومية، ألا وهو مفهوم التشابك الكمي، أي أن جزيئين من نفس المنشأ يترابطان ويتشابكان ببعضهما وتصبح خواصهما مرتبطة، حتى لو قمت بفصلهما عن بعضهما، فإن الترابط يبقى قائماً. لفهم هذا نضرب المثل التالي:
تتميز الإلكترونات بحركة مغزلية تعرف بالـ "Spin"، حيث يقوم الإلكترون بالدوران في حالة تراكب عكس عقارب الساعة ومع عقارب الساعة في نفس الوقت، وعندما نقوم بقياسه فإنه يختار اتجاهاً واحداً للدوران، والغريب أن الإلكترون الثاني المترابط مع الأول يأخذ مباشرة الاتجاه الآخر مهما كانت المسافة بينهما بعيدة، أي لو افترضنا أن الإلكترون (أ) موجود على كوكب الأرض وهو مترابط مع الإلكترون (ب) الموجود على القمر، سيكون الإلكترونان في حالة تراكب أي أنهما سيدوران مع عقارب الساعة وعكسها في نفس الوقت.
الآن سنقوم برصد الإلكترون (أ) فسيأخذ حالة واحدة، ولنفترض أنه اختار أن يدور مع عقارب الساعة، عندها وبشكل مباشر وتلقائي سيختار الإلكترون (ب) الموجود على القمر أن يدور عكس عقارب الساعة؛ لأنه متشابك مع الإلكترون (أ). لكن كيف يحدث ذلك؟ كيف أثر الإلكترون (أ) على الإلكترون (ب) بهذه السرعة وهذه الكيفية دون أن يكون بينهما أية أسلاك أو أدوات اتصال؟
بالنسبة لبور وزملائه، يمكن تشبيه ذلك بقطعتي نقود معدنيتين (كالتي يستعملها حكام كرة القدم في تحديد قرعة البداية)، كل قطعة مؤلفة من وجهين: الطرة والنقش، القطعتان تدوران في مكانين مختلفين. الآن عندما نوقف القطعة الأولى على الطرة، وبما أن القطعتين مرتبطتان تشابكياً مع بعضهما، فإن القطعة الثانية ستصبح نقشاً في نفس الوقت. فماذا حصل بين القطعتين جعل حالة إحداهما تؤثر بهذا الشكل الغريب على حالة الأخرى؟ رفض أينشتاين هذا الاتصال الغريب والفائق السرعة، واعتبر أنه لا تشابك بين الإلكترونين وأن تمثيل بور وزملائه للأمر خاطئ تماماً..
بالنسبة له، الأمر يشبه زوجاً من القفازات أحدهما لليد اليمنى والآخر لليد اليسرى، منفصلين داخل صندوقين، ونحن لا نعرف أياً من القفازين موجود في أي الصندوقين إلا بعد أن نفتح أحدهما، فلو أخذنا أحد الصندوقين إلى القمر والآخر تركناه على الأرض، ثم قمنا بفتح الصندوق على الأرض ووجدنا القفاز الأيمن فإنه حتماً سيكون في الصندوق على القمر القفاز الأيسر، ولا تأثير عن بعد بين القفازين، كلاهما كانا إما يمين أو شمال منذ البداية. إذاً من كان على حق؟ بور الذي دعم الفكرة التي تقول إن الإلكترونات المترابطة تشبه قطعتي نقود معدنيتين تدوران وتتصلان ببعضهما بعضاً حتى عبر مسافات بعيدة جداً أم ألبرت أينشتاين الذي اعتبر أن لا وجود لاتصال بين الإلكترونات المترابطة، وأن كل شيء تحدد منذ الحظة التي انفصلا فيها كالقفازين تماماً.
توفي أينشتاين سنة 1955 دون أن يستطيع أحد حل هذه المعضلة ومعرفة من كان منهما على حق، وانتظر الأمر بضع سنوات حتى تمكنت أبحاث جون كلاوزر وألان اسبيكت من حسم هذا الجدال الفيزيائي العميق، والنتائج كانت صادمة، بور كان على حق والرابطة الشبحية موجودة، الجسيمات الكمية يمكنها الارتباط عبر الفضاء، قياس إحدى الجسيمين المرتبطين يؤثر على حالة الجسيم الآخر.
لقد قال أينشتاين في إحدى المناظرات في إطار رفضه لقوانين الاحتمالية التي تحكم ميكانيكا الكم: إن الله لا يلعب النرد، فأجابه نيلز بور: لا تقل لله ماذا يجب أن يعمل. لا ريب أن ميكانيكا الكم علم مليء بالغرائب والعجائب، وهو يدل بما لا يدعو للشك إلى عظمة الخالق المكون المبدع، سبحانه من قائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.