جنوب السودان” السقوط في مستنقع التشظي”

لكن الصراع المتجدد بين سلفاكير ونائبه مشار وحلفائه من أنصار قرنق من جهة، مهما بدأ لأول الأمر في دائرة الصراع السياسي، فإن سرعان ما ولجت إلى حيثياته الأجندات والولاءات القبلية الحادة لا سيما في مناطق تداخل القبائل وتماسها وهو ذات الأمر الذي امتد إلى داخل الجيش الشعبي بانشقاقات كلها قبلية لا تعرف ولاءً للوطن أشد من القبيلة، بل إن النذر كلها تشير لمرحلة جديدة من التشظي وانتقال القتال إلى داخل القبيلة بين عشائرها وبطونها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/30 الساعة 07:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/30 الساعة 07:13 بتوقيت غرينتش

شهدت الحركة الشعبية لتحرير السودان انشقاقاتٍ عديدة، منذ أول تأسيسها نحو منتصف الثمانينيات، وقد حمل مطلع التسعينيات الانشقاق الأكبر، بخروج مجموعة الناصر بقيادة رياك مشار، وإذ استعر القتال بين الفصيل الرئيس في الحركة الشعبية والمنشقين، فقد صور جون قرنق ذلك القتال بأنه ضد الانفصاليين الذين لا يؤمنون بمبدأ وحدة السودان.. المبدأ الذي أقره المؤتمر الأول للحركة الشعبية بجبل (شقدم) في العام 1993 واتخذ قرارين مهمين، كان أولهما التأكيد على وحدة السودان، بينما أقر القرار الثاني -عبر الانتخاب- اختيار قرنق رئيساً للحركة وقائداً لجيشها، واختيار سلفاكير نائباً له في الموقعين.

لكن مهما أكّد سلفاكير من بعد، أنه مؤمن بوحدة السودان ويسوق البراهين بقتاله المنشقين عن الحركة أوائل التسعينيات بسبب مناداتهم بالانفصال، فإن الرجل ظلت علاقته برئيس الحركة الشعبية تقارب حدود العداء السافر في أوقات كثيرة، يزكيه أطروحات قرنق وأفكاره حول السودان الجديد، التي لم يكن سلفا كير يؤمن بها يوماً.

حمل مطلع الألفية الثالثة وجهاً جديداً للتوتر بين قرنق ونائبه، فقد بدا في تلك الأثناء أن قرنق يقود الحركة منفرداً قابضاً على مقاليد الأمور مستغنياً برأيه عن كافة رفاقه في القيادة، حتى أن نائبه سلفاكير صرّح بعد توقيع الحركة الشعبية مذكرةً للتفاهم مع المؤتمر الشعبي في العام (2002) "أنه لم يعرف بمذكرة التفاهم بين الحركة الشعبية والمؤتمر الشعبي إلا من خلال وسائل الإعلام، كما طلب من أحد الصحفيين في ذلك الوقت مده بنسخة من المذكرة للاطلاع عليها".

لكن الحركة الشعبية وهي تقبل على مفاوضات السلام مع الخرطوم كانت تضج بمعارضة شديدة لقرنق من داخل الصفوف الأولى في حركته، تكاد تلامس حدود الانقلاب على رئيس الحركة مدعومة بالقادة العسكريين الأبرز وعلى رأسهم سلفاكير، في تعبير بليغ عن الضيق بطريقة إدارة الحركة، لكن جون قرنق نجح في العبور بالحركة موحدة إلى توقيع السلام، وقد أسعفه حضوره المؤثر في أن يطفئ ثائرة الغاضبين في اجتماع شهير بمدينة ياي.

لكن جون قرنق منذئذٍ بدا عاجزاً عن القيام بمصالحات ليس على صعيد المجتمع الجنوبي الأعم فحسب، وإنما داخل الأطر الضيقة لحركة الشعبية، ومهما بدت الحركة الشعبية متماسكة عسكرياً وسياسياً في أوقات كثيرة، فإنها كانت تحمل ضعفاً مؤسسياً ظاهراً، لا يتيح لها أن ترسي دعائم المجتمع على أساس أقوى بعيداً عن العرقيات والقبيلة التي تحتفظ بالولاء الأقوى في المجتمع الجنوبي.

لكن سلفاكير الذي آلت إليه مقاليد الأمور من جون قرنق، ظل يسعي خلف تسلُّمٍ كامل سلطات جون قرنق، لكن لا تسعفه الرؤية العميقة والذكاء الحاد الذي توفر لسلفه، ولا إجماعاً كان يتوفر لشخص القائد الزعيم الراحل، وهذا ما أمد الصراع الجديد بمدد وافر من أسباب الصراع، فقد شهدت الفترة الأخيرة قبل الاشتعال بالجنوب توتراً حاداً في العلاقة بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار الذي مضى -بصفته عضواً في المكتب السياسي للحركة الشعبية، ونائباً للرئيس- بتوجيه انتقادات للرئيس سلفاكير.

خلال ذلك كان جنوب السودان الذي أصبح دولة مستقلة تعتمد على البترول لكنها لا تقوم على مؤسسات راسخة في المجتمع، بل إن الحرطة الشعبية لم تفلح في تحويل الجيش الشعبي إلى مؤسسة عسكرية قومية، لكن مفارقة أخرى شديدة التأثير داخل الشعبي كانت هي استيعاب أطياف من الفصائل الجنوبية، مهما كانت مناوئة لسائر نضال الحركة الشعبية تقاتلها جنباً إلى جنب الجيش الحكومي.

لكن ساعة السلام انحازت فصائل تتوالي مع جيش الحركة الشعبية ضمن تشكيلاته العسكرية، فظلت تعتمل في داخله جميع محركات الولاء القبلي والعرقيات لا تهدأ التوترات والصراعات داخل صفوف جنده، لكن استمرت مراكز القوى داخل الحركة الشعبية تعتمد على أموال البترول في شراء الولاء وعبر التوظيف في سلك الدولة ومؤسساتها.

لقد بدت الحركة الشعبية خلال حكمها لجنوب السودان تتشكل من مجموعات شديدة التنافر في الرؤى السياسية، لكنها أيضاً شديدة التنوع العرقي والقبلي، وإذ بدت المجموعة التي تناصر الرئيس سلفا كير أقرب ما تكون إلى روح الولاء العسكري للجيش الشعبي، فإن المجموعة التي قامت على الضفة الأخرى تنازعه وتوالي نائبه رياك مشار حملة ذات التنوع القبلي، لكنها الأقرب إلى الروح التي تجسد التنظيم السياسي للحركة الشعبية، لكن وجوهاً من قيادات الحركة، الذين يتحدرون من خلفيات إثنية مختلفة؛ منهم الأمين العام السابق للحركة، باقان أموم الذي تعود أصوله إلى قبيلة الشلك بولاية أعالي النيل وربيكا قرنق عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية، وأرملة جون قرنق، وتنحدر أصولها من قبيلة الدينكا بولاية جونقلي، سوى دينق ألور الذي ينتمي إلى دينكا أبيي، لكن تلك المجموعة ظلت تمثل الولاء المطلق لذات توجهات ورؤى الزعيم التاريخي للحركة الشعبية (جون قرنق) مهما بدا أن رياك مشار لا ينخرط بالتمام ضمن دائرة الولاء لتلك الرؤية والحماسة لجون قرنق.

وإذ استعر الصراع لأول مرة حول السلطة في جنوب السودان بين الرئيس وتلك المجموعات، فإن ظلالاً من الشقاق التالد داخل الحركة عبر تاريخها بدا ظاهراً لا سيما من بعد القرارات التي اتخذها الرئيس سلفاكير بحل الحكومة، وتجميد أجهزة الحزب العليا.

لكن الصراع المتجدد بين سلفاكير ونائبه مشار وحلفائه من أنصار قرنق من جهة، مهما بدأ لأول الأمر في دائرة الصراع السياسي، فإن سرعان ما ولجت إلى حيثياته الأجندات والولاءات القبلية الحادة لا سيما في مناطق تداخل القبائل وتماسها وهو ذات الأمر الذي امتد إلى داخل الجيش الشعبي بانشقاقات كلها قبلية لا تعرف ولاءً للوطن أشد من القبيلة، بل إن النذر كلها تشير لمرحلة جديدة من التشظي وانتقال القتال إلى داخل القبيلة بين عشائرها وبطونها.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد