تعرضت تركيا في الخامس عشر من شهر يوليو/تموز الجاري لمحاولة انقلابية كان يتم الإعداد لها على مدى 30 سنة تقريباً، وقد كانت هذه المحاولة الانقلابية تهدف لإسقاط الحكومة التي فازت في كل الانتخابات التي دخلتها ليتم فسح المجال لعناصر من العسكر والمدنيين من أتباع فتح الله غولن الذي يعيش في بنسلفانيا بالولايات المتحدة، وعلى خلاف الانقلابات السابقة فقد تم استخدام العنف وأساليب أشبه بأساليب داعش في هذه المحاولة الانقلابية.
وعلى طول تلك الليلة تعرضت المقرات الحيوية والسيادية كمبنى مجلس الأمة الكبير (البرلمان)، المجمع الرئاسي، دائرة القوات الخاصة التابعة للشرطة، مبنى التلفزيون الرسمي، وإدارة الأمن، بالإضافة للمدنيين العُزل لهجوم من الطائرات المروحية وطائرات F-16.
ومع ساعات الصباح الأولى انجلت الليلة الطويلة التي سادها الغموض والترقب عن انتصار للإرادة الوطنية. ولكن بقيت أسئلة عالقة حول مَن يقف خلف هذه المحاولة الانقلابية وما سبب فشله؟
إن منظمة فتح الله غولن الإرهابية التي دعمتها الولايات المتحدة الأميركية ضمن مشروعها للإسلام المعتدل بعيد انقلاب 1980 تحولت في فترة قصيرة من كونها مجموعة إسلامية إلى تنظيم عسكري. وما زالت الكتابات المليئة بالمدائح التي كتبها فتح الله غولن للانقلابيين عام 1980 موجودة على صفحات الإنترنت.
لقد بدأ التنظيم بعيد الانقلاب المذكور عمليته في التغلغل ضمن المؤسسة العسكرية التركية، ولتحقيق هذا الأمر افتتح بيوتاً "تنظيمية" للطلاب، ومعاهد دراسية وأولى التنظيم اهتماماً بالطلاب القادرين على النجاح في امتحان الثانوية العسكرية، حيث حرص على تعبئتهم بأيديولوجيا التنظيم المهدوية (التي تقوم على اعتقاد أن فتح الله غولن يتمتع بحق إلهي في إدارة وحكم تركيا)، وقد بدأ هؤلاء الطلاب حياة جديدة خلال مرحلة الدراسة في الثانوية العسكرية وما تلاها، لقد تم تحديد حتى خيارات زوجاتهم وعلاقاتهم مع أسرهم من قبل التنظيم، لقد بُنيت حياتهم على أساس السرية واتباع التقية.
ثم أخذت أعداد منتسبي هذا التنظيم الذي يقوم بناؤه على الخلايا التنظيمية تتزايد في الجيش التركي، وتحديداً في السنوات الأخيرة ومع اتباع وسائل من قبيل سرقة الأسئلة الامتحانية والمحسوبية في مقابلات الكليات العسكرية ووسائل مشابهة استطاع التنظيم التغلغل في مؤسسات القضاء والشرطة ودوائر الدولة.
في الحقيقة إن فهم تنظيم غولن أمرٌ ليس بالسهل. فالجماعة تعمل كما أي منظمة استخباراتية، حيث تولي أهمية كبيرة للعمل السري، وتستخدم الخلايا في تنظيمها، ويستخدم منسوبوها الألقاب والأسماء غير الحقيقية. ويمكن رؤية هذا الأمر بشكل واضح من خلال اعترافات معاون رئيس الاستخبارات التركي، حيث قال المعاون في إفادته: "لقد تعرفت على الجماعة خلال سنوات دراستي المتوسطة، حيث نشأت في عائلة فلاح فقير، وبدأت في تلك السنوات بالتردد على بيوت التنظيم، وفي امتحان الكلية العسكرية أحضروا لنا الأسئلة قبل الامتحان. بقيت بعدها على تواصل بشخصين في التنظيم أسماؤهما الحركية "موسى وسردار"، واللذان أخبراني بأن مهمتي الرئيسية هي التأكد من عدم اكتشاف أمري. وأثناء وجودي في رئاسة الأركان كنت أقوم بتسجيل محادثات رئيس الأركان وأقوم بإيصالها إلى الشخص المسؤول عني في التنظيم".
لا يعد تنظيم فتح الله غولن الإرهابي تنظيماً غير معروفٍ للمواطن التركي، فالمعلومات حول محاولات الجماعة التغلغل وتعيين الأشخاص بالمحسوبية هي أمور متداولة في الشارع التركي، لكن حجم الجماعة وهدفها النهائي هو ما كان مثار النقاش. لقد تسارعت عمليات التغلغل في مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية التي قام عليها التنظيم منذ 30 سنة، (وبشكل لا يتناسب مع حجم التنظيم الحقيقي) في السلك العسكري والقضاء والشرطة في السنوات التي تلت عام 2000.
وبعد انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 (أو ما عُرف بالانقلاب بعد الحداثي) تأثرت كل الجماعات الإسلامية سلباً، باستثناء تنظيم فتح الله غولن الذي دعم الانقلاب بشكل واضح والذي بدا وكأنه يحتكر المشهد.
لقد استخدم تنظيم فتح الله غولن خشية حزب العدالة والتنمية من تنفيذ انقلاب ضده كاستراتيجية لتصفية من يشكلون منافسين له في المؤسسة العسكرية عبر تلفيق ادعاءات وأدلة كما حدث في دعاوى المطرقة والإرغنكون. وفي هذه الأثناء استطاع التنظيم أن يعين عناصره في مواقع حساسة داخل الجيش. وعلى الرغم من عدم تشكيل عناصر التنظيم للأغلبية في الجيش إلا أنهم أصبحوا يمتلكون قوة كبيرة من خلال تواجدهم في أماكن حساسة ومواقع مفصلية في المؤسسة العسكرية.
لقد حاول التنظيم في السابع من شهر فبراير 2012 تنفيذ عملية انقلاب استخبارية من خلال اعتقال رئيس جهاز الاستخبارات التركية، ولكنه لم ينجح، ثم عاد التنظيم وحاول في عملية 17 و25 ديسمبر/كانون الأول 2013 إسقاط الحكومة عبر القضاء بادعاءات كاذبة، ولم ينجحوا. بعدها بدأ التنظيم بالتجهيز لمواجهته النهائية معتمداً على عناصره الموجودين داخل الجيش. وبدورهم قام عناصر التنظيم قبل الانقلاب وعبر وسائل التواصل الاجتماعي بنشر مشاركات من قبيل "سوف تدفعون الثمن" و"الأيام الجميلة قريبة"، حتى أن بعض أعضاء التنظيم في الخارج أعلنوا حتى عن تاريخ الانقلاب المرتقب.
رمى تنظيم فتح الله غولن الإرهابي بعد فشل محاولاته السابقة بآخر أوراقه وأهمها من خلال العمل على تحريك عناصره الذين زرعهم في المؤسسة العسكرية خلال الثلاثين سنة الماضية، لكن الشعب التركي استطاع التغلب على هذه العقبة بفضل صموده، وتوحد سياسييه، وقيادة رئيس جمهوريته. ومن الآن فصاعداً ستكون تركيا مشغولة بتصفية هذا التنظيم الإرهابي الذي تغلغل في مؤسسات الدولة خلال السنوات الثلاثين الماضية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.