على طاولة مستديرة، يجلس المُؤْتَمِرون، كل واحد يأخذ لنفسه كرسياً بنفس القدر والقيمة، الكاميرات تضع نصب أعينها أمام "نجوم" المؤتمر، "الكرواصون" وكؤوس من العصائر والشاي، وقنينات المياه المعدنية الفاخرة، هي الأخرى تأخذ مكاناً لها فوق طاولة الاجتماع، تزاحمها أوراق بيضاء وأخرى ملونة، وأقلام وأجندات تنتظر من يخربش فوق سطورها ما تيسر من الخطابات الشفوية.
في هذا المؤتمر، يتباحث الجميع حول عنوان عريض" مستقبل المغرب.. أي أفق، وأية رؤية سياسية؟"، يحضره شخصيات تمثل مختلف الأطياف والأحزاب السياسية، في هذه الأثناء دخل رئيس الجلسة، الآن دقت ساعة الحسم، المؤتمرون ينظرون لبعضهم البعض بنظرات حادة، الكاميرات تسجل، و"الكرواصون" وكؤوس العصائر والشاي تنتظر بعد لحظات من يلتهمها.
بعد أن تحدث رئيس الجلسة بما تيسر من كلامه الشفوي، يعلن افتتاحه للجلسة بمنح الكلمة والمداخلة لأول متحدث في المؤتمر.
الآن الكلمة للمتدخل الأول، تفضل سيدي المحترم..
"السيدات والسادة المحترمون، رئيس الجلسة، ضيوفنا الأعزاء، أهلاً بكم، لا يخفى عليكم أن حزبنا، ذا التوجه الليبرالي والرأسمالي، يستطيع أن يجيب عن سؤال المستقبل، فلا أفق، ولا رؤية سياسية دون اعتماد توجه ليبيرالي في شقيه السوسيوثقافي والاقتصادي، بلادنا وعلى مر التاريخ منفتحة على كل الشعوب والثقافات، وسياسة الانفتاح ستوصلنا نحو طريق النمو والازدهار، إذن لا غنى، ولا بديل، ولا محيد عن حزبنا الذي استطاع تاريخياً أن ينقذ البلاد من الأزمات والديون.
نحن على عكس الأحزاب الأخرى، فالأحزاب ذات التوجه الاشتراكي اليساري، لم ولن تستطيع تحقيق أي رؤية استراتيجية ناجعة مستقبلية لبلادنا العزيزة، إنهم يتفننون فقط في الشعارات الرنانة، في الجامعات، والنقابات، والبرلمانات، والساحات الفارغة، لقد فشلتم في تطبيق حرف واحد من نظريات كارل ماركس، أنتم من خرب هذه البلاد، ادّعَيْتُم انحيازكم للكادحين والفقراء، فكنتم أول مَن باع شعاراتكم عند أقرب رأسمالي متعفن.
أما عن الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، فهي فشلت في محاربة الفساد كما كانت تدعي، فلا نمو ولا ازدهار، ولا رؤية ناجعة دون محاربة الفساد، إنهم يتفننون فقط في إلقاء الخطب الكاذبة، ويلبسون لباس التقوى والطهارة أمام الناس البسطاء، وفي الأخير نراهم يتحالفون مع جيوب الفساد البلاد.
سيدي الرئيس، السيدات والسادة الحضور، إن حزبنا قادر على إعطاء حلول عملية وبراغماتية بعيداً عن تلك الخطابات الدينية والشعبوية المنحطة، والشعارات الطوباوية الحالمة.
المداخلة على ما يبدو أوقَدَتْ جلبة ومشادات كلامية بين المُؤْتَمِرين، سرعان ما حسم رئيس الجلسة الأمر بطرقات مطرقته الخشبية، مثقلة بصوت مزلزل، كسر صخب المكان.
والآن الكلمة للمتدخل الثاني، تفضل سيدي المحترم..
"السيدات والسادة الأعزاء، الرفيقات المناضلات، والرفاق المناضلون، السيدات والسادة الحضور، رئيس الجلسة، تحية لكم، نحن لنا تاريخ طاهر في النضال الثوري ضد الإمبريالية الغاشمة، ضد أشكال الظلم والطغيان الجشع للرأسماليين، والسياسات الإقصائية للفئات الشعبية، نحن كنا وما زلنا مع الكادحين والعمال، نحن كنا وما زلنا ضد الأفكار الرجعية الرثة، نحن لسنا مثل هؤلاء من حكموا قبلنا، عصابات من رجال الأعمال، من يَدَّعون أن الرأسمالية هي من ستنقذ الفقراء من بؤسهم، ونحن لسنا أيضاً مثل هؤلاء الظلاميين الرجعيين ذوي العقليات المكبوتة، من انتهجوا سياسات لا عمومية ضد المواطن الكادح المسكين، نحن لسنا أصحاب شعارات رنانة، نحن أصحاب مبدأ وشرف، أي نعم حكمنا البلاد، لكن نحن لا نتحمل وحدنا مسؤولية الفشل آنذاك، إنهم هم من منعونا، وأفشلوا خطتنا الخماسية، إنهم هم هؤلاء القطط السمان، رجال الخفاء، ونحن نتبرأ منهم.
سيدي الرئيس، الرفيقات المناضلات، والرفاق المناضلون، أيها الحضور الكريم، لا مستقبل لوطن دون اعتماد اشتراكية ثورية جذرية، تنسف كل الطبقات الاجتماعية، ويذوب فيها الكل في بوتقة واحدة، في إطار مجتمع تعاوني حر، ينعتق من الرأسمالية الجشعة، ومن ماضوية الرجعية الإسلاموية".
مرة أخرى المتدخل الثاني، أوقد فتيل الاشتباك الكلامي بين الحضور، لكن كما العادة، أسكت رئيس الجلسة ألسنة الحضور بمطرقته المزلزلة.
الآن الكلمة للمتدخل الثالث، تفضل سيدي المحترم..
"حمحم.. بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، السادة المحترمون، أخواتي المناضلات، إخواني المناضلون، رئيس الجلسة، السلام عليكم، جواباً على إشكال "أي رؤية سياسية" لبلادنا الكريمة، نقول بأن الله عز وجل حبا هذه البلاد الكريمة بخيرات ونعم كثيرة ووفيرة، والحمد لله، حزبنا الكريم استطاع بفضل الله، أن يجنب بلادنا أزمات وويلات الحروب والاضطرابات السياسية، انظروا ما يقع الآن في بعض من بلدان أشقائنا وإخوتنا العرب، كل ذلك بسبب إقصاء الإسلاميين.
ولذلك تجربة بلادنا الاستثنائية استطاعت أن تمنع بفضل الثقة التي منحها لنا شعبنا الكريم الفوضى والعبثية السياسية، نحن ما زلنا في بداية المشوار، ومن يدعي أننا فشلنا في محاربة الفساد، فهو آثم نفسه، ونحن ولله الحمد، استطعنا أن ننجح في التقليل من مظاهر الهشاشة الاجتماعية، وأن نزيد من فرص الاستثمارات الأجنبية، نحن لسنا منغلقين، أو محافظين، نحن ولله الحمد، وكما ترون ندعم المهرجانات، رغم أننا كنا نعترض عليها فيما قبل أيام المعارضة، إلا أننا اكتشفنا أن الشعب يحتاج لها، حتى يخفف من همومه اليومية، حزبنا ليس رأسمالياً ينتهج سياسات ربوية تعارض شرع الله، ولا نحن مثل هؤلاء الملحدين، من يتهموننا بالظلاميين، نحن لم نبع مؤسسات الشعب لرجال الأعمال كما فعلوا هؤلاء الرفاق.
سيدي الرئيس، إخواني، أخواتي، السادة الحضور، نحن لم نكذب، ولم نخن الأمانة، نحن نعاهد الله ورسوله، وأمام شعبنا الكريم أننا سننجح في كسب رهان الازدهار والنمو والتقدم، فلا مستقبل لوطن دون الحفاظ على هوية إسلامية، تؤسس لما شرعه الله ورسوله الكريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
جلبة أخرى أكثر شدة وحِدَة، سب وشتم، قذف وذم، يسيل لعابه أمام أعين الحاضرين والكاميرات، الكلام رغم بذاءته لم يسعف المُؤْتَمِرين "المحترمين"، فكان لزاماً استخدام الأيادي والعضلات، وحتى يأخذ المؤتمر مجراه الطبيعي نحو التهدئة وفك الاشتباك،.
كان لزاماً على رئيس الجلسة أن يتدخل، وهو الجالس بهيبته المصطنعة، الهادئة الملامح، بجلسته تلك الثابتة، تؤكد أن في جعبته حلاً ناجعاً، يبتعد عن الحلول الأمنية في استعمال خراطيم المياه حتى تبرد الخواطر، أو رمي قنابل مسيلة للدموع، لعل وعسى أن يحن الرجال لدموع الصبى، الأمر سهل إذن،
مجرد كلمات، تنهي الصراع، وفصول المسرحية، كلمات تجمع المؤتمرين على قلب رجل واحد، وطاولة واحدة، وصحن واحد، ومعدة واحدة، هي كلمات
فواحة برائحة ما يشتهيه كل واحد منهم…
"السادة المحترمون، حان الآن موعد جلسة الغذاء، من فضلكم تفضلوا لصالة الأكل".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.