لا تقودنا اللحظة الرومانسية الحالية بعد فشل الانقلاب العسكري في تركيا، إلى الزعم بأن تركيا تعيش ربيعاً خاصاً، لكنه بالتأكيد امتداد لصيرورة مطالبة شعوب المنطقة العربية والمغاربية بدولة المؤسسات الحرة والديمقراطية، والتي تعتبر تركيا الحاضن القومي لهذه المطالب.
لقد دعّمت تركيا مجمل ثورات الربيع العربي، ووقفت إلى جانب ثوّار الكرامة والحرية في معظم دول المنطقة، وعبّرت عن مواقف جريئة وصارمة في أوقات تتلاعب فيها أنظمة القوى الإقليمية والدولية بمواقفها إزاء أحداث الربيع وما تلته من ثورات مضادة، وكانت لتركيا مواقف سياسية قوية تجاه عديد من القضايا الدولية، كقضية اللاجئين ومحاربة الإرهاب ووقف علاقاتها مع أنظمة الثورات المضادة.
كل هذه المواقف جعلت من تركيا دولة ضاغطة وفاعلة في المنطقة، وأصبحت ذا ثقل سياسي وأمني في المنطقة، خصوصاً أنها تمثل نموذج الدولة السياسية التي يحلم بها جمهور شعوب المنطقة، إنها الدولة التي تجمع بين القيم الدينية للمنطقة ومبادئ السياسة الوضعية العلمانية في تناغم قلَّ نظيره في منطقة الشرق الأوسط بالتحديد.
إن فشل معظم ثورات الربيع العربي، إثر تكالب قوى سياسية مضادة عليها، ودعم هذه القوى بالمال والسلاح من طرف قوى إقليمية ودولية، ثم هشاشة المؤسسات السياسية والاقتصادية، جعلت شعوب المنطقة تفقد أملها وثقتها -وهذا هو الأهم- في الأنظمة الغربية الديمقراطية، التي لا تزال تتدخل بقوة في تشكيل المشهد السياسي في المنطقة في ضرب فاضح لقيم الحرية والديمقراطية التي دوّنها عظماؤها في وتائقهم الدستورية.
سينمو بصيص أمل شعوب الربيع العربي في تجربتين: الأولى، هي تجربة تونس التي ما زالت تضربها أمواج ثورة الياسمين وثورة العابدية، التي سيلزمها تضافر القوى السياسية الحرة من أجل إنجاحها. الثانية، هي تجربة تركيا؛ فلقد اعتبرت شعوب المنطقة دولة تركيا النموذج الأكثر تمثيلاً لتطلعاتهم، والأقرب لأرواحهم ولمعتقداتهم، ثم الأقدر على حماية أصواتهم؛ لذلك تدفقت الجماهير الهائلة على تركيا، منهم مَن استقر فيها ومنهم مَن طلب اللجوء ومنهم مَن جعلها محطة استراحة.
لقد جلب النظام التركي تعاطف الشعوب العربية، في الوقت الذي نفّر منه عديد من الأنظمة المجاورة والدولية التي تَعتبره داعماً للثورات هنا، وللجماعات المسلحة هناك، وللإرهاب في مناطق أخرى؛ لذلك شكّلت تركيا شوكة ضارية في حلق هذه الأنظمة التي تسعى لضرب شعبية العدالة والتنمية بكل الوسائل، وكان آخرها انقلاب البارحة الذي سعدت بحدوثه بكل تأكيد لكن سعادتها انتهت في غضون سويعات قليلة.
لا يحمل توصيفنا هذا مجاملات لنظام الحكم، بل هو توصيف موضوعي لصورة هذا النظام على المستوى الخارجي على الأقل، لكن داخلياً الأمور تبدو أكثر تشاؤماً بالنسبة للمتبعين، فلقد اتبع رئيس تركيا السيد أردوغان خطوات سياسية غير مسبوقة تقود مباشرة نحو الحكم الفردي، عندما أصر على السير قدماً نحو تعديل الدستور وتغيير نظام الحكم من النظام البرلماني نحو النظام الرئاسي، وما يحمله من مخاطر، خصوصاً في دولة لم تتجذر فيها بعد قواعد النظام الديمقراطي المؤسساتي، لقد أحس المعارضون السياسيون ضد سياسة أردوغان بهذا الخطر، وربما كانت لهم يد كبيرة في محاولة الانقلاب على حكمه.
سيعطي فشل انقلاب تركيا العسكري لدول وشعوب المنطقة المجاورة نفَساً جديداً، ثقة جديدة في قوة الفاعل المدني (الشعب)، أملاً جديداً في مستقبل تكون فيه المؤسسات الديمقراطية قوية بحيث يكون صعباً على أي تحرك عسكري إسقاطها، ثم إيماناً جديداً في ضرورة فصل الأيديولوجيا عن مصلحة الوطن في أوقات الانقلابات بشتى أنواعها العسكرية والسياسية، إنها لحظة حاسمة في تاريخ شعوب الربيع العربي، ستغير لا محالة المنطقة وستساعد الشعوب التواقة للحرية على استعادة أملها وتحركاتها، وستجعل أنظمة الثورة المضادة تغير من حساباتها.
لكن ما نخشاه، هو أن يتحول نظام أردوغان إلى سلطة غاشمة بعد أن يجتث معارضيه وينتشي بالفوز الشخصي على حساب فوز الديمقراطية المؤسساتية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.