“جمال محمد أحمد” سوداني يحمل شمسه على جبينه

جمال هنا، في حبه وولعه بمراتع صباه غير، أبي عبادة، البحتري ذاك الذي قلع أوتاده وسدر بعيداً بعيدا: "إِنّي تَرَكتُ الصِبا عَمداً وَلَم أَكَدِ مِن غَيرِ شَيبٍ وَلا عَمدٍ وَلا فَنَدِ مَن كانَ ذا كَبِدٍ حَرّى فَقَد نَضَبَت حَرارَة الحُبِّ عَن قَلبي وَعَن كَبِدي"

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/17 الساعة 06:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/17 الساعة 06:20 بتوقيت غرينتش

"فِكر جمال، كوجهه، سيظل أبد الدهر جهير الرواء" قال د.منصور خالد في ذكرى اليوم الذي أُلحِد فيه كاتب سَرّة شرق ومترجم "إفريقيا تحت أضواء جديدة" قبر موحش ووسد الثرى والتراب. مضى جمال فعلمنا أن الكواكب في التراب تغور.
على بوابة منزله بالخرطوم ثمّة لافتة كتب عليها: "جمال محمد أحمد- سَرّة شرق".

وكانت "سّرة شرق" بلدته التي طمرتها مياه النيل وأتى عليها فيضان بحيرة السد العالي، فيما أتى عليه من بلاد النوبيين أقصى شمال السودان، تلك الجنة المفقودة ظلت تشد جمالاً بحبال الذكرى وتكبله، فلا ينفك من إسار الحنين إلى ماضيها العبِق، مهما سعى إلى التعويض عن ذلك بالأسفار، واختيار الأماكن التي تشابه قريته القابعة في قعر النيل الطامح، إلى تلك البيئة وتلك النشأة القروية يرد جمال محمد أحمد، الفضل في تفتّح عقله واتساع مداركه: "مجتمع القرية الصغير في "سرّة شرق" هو الذي رعى عقلي منذ الصغر وسرت بفضل الله في ذلك المجتمع بالذهاب إلى المدرسة، هذه الميزة جعلتني أقضي وقتاً طويلاً مع الكتب.

في "سرّة شرق" كنت أقرأ (هـ.ج. ويلز) عن تاريخ العالم الذي استهله من بابل وآشور.. أنا قروي ولا يمكن لمرور الزمن أو اختلاف الأماكن أن يؤثرا في طبيعتي القروية ولذا فإن أثر "سرّة شرق" تجده في معظم كتاباتي وإن جاءت على غير وعي مني".

جمال هنا، في حبه وولعه بمراتع صباه غير، أبي عبادة، البحتري ذاك الذي قلع أوتاده وسدر بعيداً بعيدا:
"إِنّي تَرَكتُ الصِبا عَمداً وَلَم أَكَدِ مِن غَيرِ شَيبٍ وَلا عَمدٍ وَلا فَنَدِ
مَن كانَ ذا كَبِدٍ حَرّى فَقَد نَضَبَت حَرارَة الحُبِّ عَن قَلبي وَعَن كَبِدي"

شاعر فرنسي ذلك الذي أمكنه القول: "الآلهة تمنحنا مطلع القصيدة ونحن نكملها.." إنما صاحب العبقريات "العقاد" ولا ريب هو القائل: "الشعر من نفس الرحمن مقتبس والشاعر الفذ بين الناس رحمن".

في ليلة الاحتفاء بتراث جمال وذكراه ومن بعد ربع قرن من الزمان قال أحد مريديه: "كانت منثورات جمال فيها شيء من نفس الرحمن. لا غرو في أن جمالاً كلما أشار إلى العقاد كان يقول سيدي العقاد، أو يضيف رضى الله عنه..".
من ذات مشكاة الفرنسي "فاليري" والأستاذ "العقاد" الموصولة بإلهام الآلهة ونفس الإله. كان يخرج أدب جمال وفنه وتراثه كله، الآلهة هي التي أمدته بالمطلع فكتب (ولايات النيل المتحدة) النبوءة التي نعايشها اليوم.. في تلك المخطوطة التي لم تطبع بعد كان جمال كمن أطلع الغيب فرأى المستقبل، حاضرنا الذي نعيشه ونكابد، يقرأه، يحلله، يحدِّث عن تفاصيله، ذات الحس الذي تجده في كتابه الآخر (العنصر الديني في اليقظة الجزائرية) يمكنك هنا أن تقرأ حركة المجتمع الجزائري حتى يوم الناس هذا، وتستشف من آخر ملامحاً للمجتمع السوداني والمجتمع المصري كذلك، من أين له كل ذلك الإلهام السماوي الفريد..؟

تعينه في جميع أعماله الأدبية والفكرية لغة ناصعة فريدة، حتى أن البروفيسور علي المك وسم لغته بخصوصية، فأسماها "لغة جمال" يقول في معرض تعليقه على كتاب (وجدان إفريقيا): "هذا الكتاب لا يضيف مادة جديدة فحسب بل هو امتداد لما يمكن أن نسميه لغة جمال محمد أحمد. تلك التي تدخل الأذهان والافئدة غازية مقتحمة وهي قادرة لأصالتها أن تقتحم. ربما قاومتَ زماناً، ولكنك لا بد أن ترفع راية الاستسلام حين تلح عليك بسحرها" وعلى ذلك كانت شهادة د. منصور خالد "لا غرو في أن ينتهي الأمر بجمال المستعرب لأن يكون واحداً من جهابذة تلك اللغة عندما أضحى عضواً في مجمع اللغة العربية".

يقول تلامذته ومعاصروه: إنه كان نوبياً سودانياً وعربياً إفريقياً، ثم هو من بعد متجاوز لكل هذه المكونات والانتماءات ليكون "إنساناً" الإنسانية التي أهلته لأن يكون ناطقاً بسم كل الشعوب في جميع أوطانها وبقاعها.. "ما أبعد الشقة بين "سرّة شرق" وأكسفورد" يتعجب الطيب صالح! جمال نفسه حار من ذلك المسير الطويل: "لا أعرف حتى الآن كيف عبرنا -زوجتي وأنا- الطريق من سرّة شرق إلى أكسفورد والعكس!".

على أنك تجد عند الرجل حالة من التصالح مع أفريقيته قلّ أن تجدها عند أضرابه من الأدباء والمبدعين السودانيين الذين طالما أبدوا برماً وشكوى من نظرة الإنتقاص التي غالباً ما يصوبها إليهم أندادهم من الأعاريب. الفيتوري عبّر عن ذلك، ربما لأن جمالاً الوزير، ومن قبل السفير، تميز بالمكانة السياسية والنفوذ وهاتان الميزتان مكنتاه من مخالطة الرؤساء وكبار الساسة والأدباء والشعراء العرب فهو بذلك يبدو متجاوزاً للحواجز التي شكى منها السودانيون فأطالوا الشكوى، حاجز سواد اللون..

وإذ جأر الشعراء السودانيون بتلك الشكوى فالإحساس عميق لديهم أن ذلك يحول بينهم وبين ما يستحقون من الاعتبار والإكبار. إنما جمال كان متصالحاً مع ذلك لا تكاد تجد له أثراً في تراثه حتى أنه يقول إن أسخف سؤال واجهه. حين سئل: "عربيٌ أنت أم أفريقي؟".

رحل جمال وخبأ روحه، كان أشد خوفه على السودان مما أسماه "تحالف الدين والعسكرية" وكان قد شهد بصيصاً من ذلك في آخر سنوات مايو، تلك لم تك تجربة سعيدة بالنسبة لجمال، أما هذه التي ما نزال نعايشها فهي ولا ريب نوع من المأساة رحم الله جمالاً إذ لم يشهدها بدأت بذلك التحالف وانتهت إلى أن فقدنا الإثنين، فلم نحفظ ديننا ولم نحفظ عساكرنا. هكذا كان يرى جمال ويقرأ في تجارب الأمم من حوله يقول: "هذا الحلف عرفته بقاع كثيرة في هذه المنطقة، ولم يأت خير في كثير منها إذ تقوم على مبدأ "الكلام الذي يدور بيني وبين العالمين خراب" هو قول غريب والعالمين هم صنع الله ويستحيل أن تنادي لإقامة شرع الله وبينك وبين خلقه خراب!"، وما يزال جمال يطرح سؤاله علينا كل حين:
"من يدري ربما أسلمناكم بلداً واحداً عزيزاً. ولكن إن أخفقنا، لمَ كان إخفاقنا؟ أسألوا".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد