د. مصطفى محمود.. كان كالغيث بعد طول جدب

حقيقةً تعجزُ الكلمات عن التعبير، كما نشعُر أنّ اللغة قاصرة عن تجسيد ما يعترينا من مشاعر مختلفة حتى نعبِّر عما يجول بخاطرنا لأناسٍ أبلَوا حسناً معنا، ونُكنُّ لهم كل الحبّ والاحترام. ومن أهم هؤلاء الأشخاص في حياتي، الدكتور مصطفى محمود، لقد أُعجِبت بشخصيته وعقله وتفكيره، فدخلت عالمّه وأبحرتُ في كتبه، وشَدّني ذكاؤه الباهر ورؤيتُه العميقة، كما أنّك تلتمسُ فيه الصدق والعمق في الطرح والموهبة الحقيقية، ما جعله يتسلل إلى الضمائر والعقول.

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/12 الساعة 06:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/12 الساعة 06:27 بتوقيت غرينتش

يقول الكاتب أحمد خَيري العُمري الذي ذاع صِيته مؤخراً كلاماً ما معناه: إنك إذا وَجدت كاتبكَ المفضّل، فاعلم حينها أنك حتماً ستُحبّ القراءة. وهذا ما حصَل معي بالضّبط، صراحةً لم أكُن شغوفاً بالقراءة من قبل، ولم أكن مهتمّاً لا لأحدثِ الكُتب والروايات ولا لمختلف المُؤلفين المتميزين، بل كنتُ قارئاً هاوياً فقط، أقرأ كتاباً أو كتابين في السّنة أو ربّما روايةً مشيّقة أشار لي إليها صديق ما، ثم أمضي غير مهتم..

ما جعلني أكتب هذه الكلمات هو أوّلاً أن أقدّم امتناني واحترامي لإنسانٍ كان هو نقطة تَحوّل في حياتي، حيث كان لوجوده أثر عميق فيها، أثار عقلي وألهب فكري وجعل حياتي أكثر متعة وروعة. وثانياً أن أعطي ولو نبذة مختصرة عنه، وهذا كله من باب الاعتراف بالفضل والجميل رغم أنه رَحل عنّا إلى عالمِ الخُلد، فكما قال رسُولُ الله عليه أفضل الصّلوات وأزكى التسليم: "لا يشكرُ الله من لا يشكر الناس"، كما أني لا أُزكِّي على الله أحداً هو أعلم بمَن اتقى، إنّما هي شهادة مني كمتعلم ارتشف من رحيق علمه وفكره، وتقديراً له على ما ترك من أثرٍ يقتدى به.

حقيقةً تعجزُ الكلمات عن التعبير، كما نشعُر أنّ اللغة قاصرة عن تجسيد ما يعترينا من مشاعر مختلفة حتى نعبِّر عما يجول بخاطرنا لأناسٍ أبلَوا حسناً معنا، ونُكنُّ لهم كل الحبّ والاحترام. ومن أهم هؤلاء الأشخاص في حياتي، الدكتور مصطفى محمود، لقد أُعجِبت بشخصيته وعقله وتفكيره، فدخلت عالمّه وأبحرتُ في كتبه، وشَدّني ذكاؤه الباهر ورؤيتُه العميقة، كما أنّك تلتمسُ فيه الصدق والعمق في الطرح والموهبة الحقيقية، ما جعله يتسلل إلى الضمائر والعقول.

كانت شَرارة بداية معرفتي بهذا المفكّر الجليل هو قراءتي لكتابه "رحلتي من الشك إلى الإيمان"؛ حيث إنني مررتُ سابقاً بفترة عصيبة غلَبَ عَليّ طابعُ الشّك فيها، فترة كنت أتساءل فيها كثيراً، أسئلة مقلقة محيّرة، أسئلة دائماً ما كانَت تستوقفني في حياتي وتَشغل تفكيري. فكان مصطفى محمود هو مرشدي بعد أن ضللت الطريق، وجدت في فكره ما كنت أبحث عنه، فاغترفت من علمه الوافر كالأرض العطشى التي تتشوق لنزول المطر، فكان لي كالغيث بعد طول جدب، فتغيرت نظرتي لنفسي، نظرتي للحياة، نظرتي لديني، الدين الذي يدعو إلى العلم قبل كل شيء، دين العمل وليس مجرد طقوس وشعائر، دين التسامح والسلام، دين الإنسانية واحترام الآخر، عكس ما لُقّن لنا أو ما يُروّجُ له في هذه الآونة في وسائل الإعلام وفي مختلف بقاع العالم.

لم يكن شخصاً نمطيّاً في تفكيره، بل كانت أفكاره مثيرة للجدل ونظرته غير معتادة للأمور، وكان دائم التأمل في طبيعة الأشياء، باحثاً عن كُنهها وأسباب وجودها، لم يسلك طريق الإيمان الموروث، وإنما سلك طريقاً مختلفاً غير معتاد، طريق الشك والبحث والتنقيب، طريق العلم والمنطق كباحث عن الحقيقة، لا لم يكن باحثاً مغروراً كما نجد بعض الباحثين اليوم الذين سقطوا في فخ الإلحاد بطعم التكبر والغرور، وإنما كان باحثاً حقاً، صادقاً في بحثه، صريحاً مع نفسه.

ستكتشف شخصيته عند اطّلاعك على بعض قصصه، من بينها أنه رغم طفولته كان يسأل كثيراً حتى وصل به الأمر يوماً أن ضربه أحد أساتذته في تعليمه الأولي وذلك لأسئلته المحيرة غير المناسبة لسنه، فجعله هذا الحادث يغيب ثلاث سنوات عن المدرسة، فعاد لمتابعة دراسته بعد انتقال ذلك الأستاذ. وما يثير انتباهك في شخصيته أيضاً أنه رغم سِنِّه المبكّرة، بفطنته وذكائه أنشأ في إحدى غُرف منزل والده مختبراً صغيراً حتى يتمكن من صُنع مبيدات لقتل الحشرات، وكان يجمعها ويقوم بتشريحها. أحبَّ علمَ التشريح، فاختاره عند التحاقه بالكلية ليحقق ما كان يحلُم به يوماً ما ويتمناه في صغره.

وقد عُرف بين أصدقائه وطلبة الكلية بنبوغه وذكائه في تخصُّصه واشتهر بينهم بـ"المشرحجي"؛ نظراً لوقوفه كل يوم متأملاً أجساد الموتى يكتشف سر الحياة والموت. ثم شاء قدر الله، فمرضَ مرضاً أقعدهُ سَنتيْن في فراشه، وهذا ما قاله على لسانه يوماً وهو يحكي عن فترة مرضِه:
"وفي السنة الثالثة طبّ احتاج الأمر إلى علاجي بالمستشفى سنتين وأدى هذا الانقطاع الطويل إلى تطور إيجابي في شخصيتي، إذ عكفت طول هذه المدة على القراءة والتفكير في موضوعات أدبية، وفي هاتين السنتين تكونت في داخلي شخصية المفكر المتأمل وولد الكاتب الأديب، وحينما عدت إلي دراسة الطب بعد شفائي كنت قد أصبحت شخصاً آخر، أصبحت الفنان الذي يفكر ويحلم ويقرأ ويطالع بانتظام أمهات كتب الأدب والمسرح والرواية، وبسبب هذه الهواية الجديدة التي ما لبثت أن تحولت إلى احتراف وكتابة منتظمة في الصحف في السنوات النهائية بكلية الطب، احتاج الأمر وقتاً مضاعفاً لكي أنجح وأتخرج (بدأت أكتب في مجلتي التحرير وروزاليوسف). وحينما تخرجت في سنة 1953 كان زملائي قد سبقوني في التخرج بسنتين وثلاث، وأستطيع أن أقول إن المرض والمعاناة والعزلة الطويلة في غرف المستشفيات قد فجرت مواهبي. والألم كان الأب الحقيقي والباعث لكل هذه الإيجابيات والمكاسب التي كسبتها كإنسان وفنان وأديب ومفكر، والألم أيضاً هو الذي صقل أخلاقي وجلا معدن نفسي وفجر الحس الديني في داخلي وكان أداة التنوير والصحوة والتذكير بالله".

وأنا أقول رُبما لم نكن لنسمع عن مصطفى محمود وبما قدمه للبشرية من كتب وبرامج ومقالات، لولا هذا الابتلاء الذي غيّر مجرى حياته كُلياً.. فسبحان من قال: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" [البقرة : 216] وقال أيضاً: "لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" [النور: 11] صدق مولانا العظيم.

ألَّفَ ما يزيد على 80 كتاباً في مختلف المجالات من مسرحيات وقصص وروايات، وأسس جمعيته الخيرية تدعى "جمعية مسجد مصطفى محمود"، وتضمُّ مسجداً ومستشفى ومرصداً فلكياً وعدّة مراكز طبّية، كما تُعدُّ من بين أهم الجمعيات في مصر وتشمل العديد من الخدمات الخيرية الطبية والاجتماعية والعلمية. ورحل عنّا إلى دار البقاء سنة 2009 عن عمر يناهز 88 سنة بعد صراع مع المرض.
رحم الله تعالى المفكر مصطفى محمود.. أديب الأطباء وطبيب الأدباء.. وجعل كل هذه الأعمال في ميزان حسناته.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد