غياب "عقلية خضراء" و"عقلية بيئية" لدى السياسي والمواطن العادي في هذا البلد هو أمر مكلف وثمنه باهض للغاية.. فالحاجة الملحة والضرورية والأهمية القصوى للأحزاب والتنظيمات المهتمة والخاصة بهذا المجال لا نتلمسه في العادة إلا مع الأوقات التي تعرف البلد فيها نقاشات حادة، مثلما يحدث اليوم مع قضية "النفايات الإيطالية" السامة، أو مع أحداث استثنائية وملفتة مثل الحدث العالمي حول المناخ المزمع عقده في البلاد، والذي سيقرر خريطة طريق مستقبل البشرية مع مشكل التلوث.
فمثلاً نحن كبلد من المفترض أنه بلد فلاحي، حيث مليون ونصف مواطن يعملون في القطاع، أي أنه يوفر 40٪ من فرص الشغل، ويساهم بحوالي 15٪ في الناتج الوطني الداخلي الخام، ومع وجود رعاية من سلطات البلد العليا عبر ما يسمى مخطط المغرب الأخضر الذي أشرف على انطلاقته الملك منذ سنة 2008 والذي يروم إلى جعل القطاع الفلاحي رافعة أساسية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في المغرب، زد على ذلك مشاريع الطاقة المتجددة التي يعول عليها الشيء الكثير، كما أننا سنكون بلداً مؤثراً على الخريطة الجيواستراتيجية العالمية على المدى المتوسط والبعيد (إنتاج الأسمدة من الفوسفات، الأمن الغذائي العالمي)، بمعنى أن الطبيعة تشكل مسألة حيوية وأهمية قصوى بالنسبة للبلد..
من كل هذه الأشياء إذا وكتوجه ومنحى بديهي للدولة والسياسيين، فالمفترض أن تكون البيئة وكل ما هو مرتبط بالطبيعة أن يشكل مسألة في غاية الحساسية ومن أولى الأولويات لدى الساسة في البلد، وبالتالي فأي مصدر تهديد أو إضرار بأي من هذه الجوانب هو تهديد صريح للوجود وللأمن القومي للبلد برمته..
لكن كل هذا وكذلك وفي بلد يرتقب أن يستضيف أكبر القمم العالمية التي تعقد حول البيئة والتهديدات التي تواجه الإنسانية ومستقبل هذا الكون في ظل التنامي والتهديدات الجادة المحدقة به، والتي يمكن أن تؤدي بفناء الإثنين معاً (الإنسان والبيئة)..
فهذا البلد نفسه وفي كامل وعي مسؤوليه وساسته وفي خضم كل تلك البهرجة والكرنافانات الفلكلورية لتسويق وجه غير حقيقي عن بلدنا لدى الآخر استعداداً للحدث، يقرر هؤلاء نفسهم استيراد كميات مهولة من نفايات سامة تحت دعاوى ومبررات أقل ما نقول عنها بكونها واهية..
ولكم شاءت الأقدار كذلك أن يكون من غرائب هذه الصدف اللامتناهية الغرابة في هذا البلد العجيب، أن إحدى السياسيات ممن تمت توليتها للإشراف على الحدث العالمي هي نفسها نجمة الفضيحة المزبلية التي أثارت الرأي العام بشكل لم يسبق له مثيل حول مثل هذا الموضوع، ولكم إذا تصورتم حجم هذا التناقض الغريب والعجيب في هذا البلد بسياسييه الأكثر غرابة وعجباً.. أي تنظيم حدث للحفاظ على بيئة الأرض وفي نفس الآن نفسه استيراد ملايين الأطنان من النفايات السامة.
المسؤولية بالطبع لن نحملها فقط لمن هي مفترض فيها أن تكون حارسة البيئة الأولى في البلد، أي السيدة الوزيرة المنتدبة المكلفة بالبيئة، فالمسؤولية يتحملها الجميع، كما أن الأمر اكبر منها وأعقد بكثير مما هو متصور وظاهر، خاصة وأن يوماً بعد يوم تتكشف بعض من الخيوط وتظهر أشياء وحقائق جديدة بين الفينة والأخرى من تورط جهات وأطراف من بينها شبكات المافيا الإيطالية، (وهذا آخر ما ينقص هذا البلد السعيد أي أن يعقد سياسيوه صفقات مع عصابات المافيا).
لكن الشيء الأكثر إثارة للغرابة الممزوجة بنوع من الاستفزاز هذه المرة، ليس فقط ذلك الصمت والخرس الكلي الذي أصاب السياسيين حول هذه المسألة التي كانت ستمر مرور الكرام لولا تلك النعمة التي أنعمها الله على هذا الشعب المسكين التي اسمها "فايسبوك" والذي بسببه أقيمت كل هذه القيامة لإلغائها مع الدعوة إلى إدانة المتورطين فيها..
لكن الأكثر من ذلك هو ذلك الدفاع والبحث عن مبررات لشرعنة وتبييض مثل هذه الصفقات دون حتى انتظار نتائج البحث المخبري من المختصين، وهو ما يعني انسلاخاً كلياً من هؤلاء السياسيين ليس فقط عن الواقع وعن التحديات وحتى الاستحقاقات التي ستعيشها البلاد (كوب 22)، لكن حتى انسلاخا ولا مبالاة عن المخاطر والتهديدات التي يمكن أن تصيب البيئة والمواطن مادام منطق البيزنيس هو الذي يعلو ولا يعلا عليه.
أما المصيبة الأكبر هو ذلك الحجم المهول من "الأمية البيئية" وغياب أي مظهر من مظاهر الثقافة الخضراء لدى جل الأحزاب السياسية بما فيها حتى تلك تحمل هذه الصفة والاسم، والتي تبين مع هذا المحك ألا علاقة لها مع أحزاب البيئة الحقيقية إلا ذلك الاسم وقليل من الخير والإحسان.
فقيمة الأحزاب الخضراء كنا سنتلمسها من خلال تلك الرقابة الشديدة التي تفرضها للحيلولة دون الوقوع في مثل هذه الخطايا التي نحن أمامها اليوم، كما هو دورها الافتراضي، وكما هو موجود في العديد من الدول في العالم، إذ إنه لو كانت لنا أحزاب بيئية حقيقية لما كان لمثل هذه الأشياء أن تقع من الأساس، وما كنا أن نتحول إلى مكب ومطرح لنفايات يمكن أن تؤدي لا قدر الله إلى هلاك للأرض والهواء من إنسان ونبات وحيوان.
كل هذا يبرز لنا فعلاً أننا في حاجة ماسة وملحة لأحزاب ومنظمات من هذا النوع، وأنه قد آن الأوان للتأسيس لنمط وفكر سياسي واقتصادي واجتماعي جديد، يكون محوره الأساس البيئة والأرض وتحقيق تنمية مستدامة، عن نمط وشكل تتبناه ويكون هو صلب الفكرة والمرجع عند التيارات والتنظيمات بالخصوص من الحقل السياسي.
فالتحديات والتهديدات المتزايدة التي تواجه المواطن والأرض يوماً عن يوم في هذا البلد، والتي لم تكن هذه الفضيحة سوى غيض من فيض تلك المئات من الصفقات القاتلة المماثلة من التي لم يعرف عنها أحد أي شيء ولم تصل إلى مرأى ومسمع أحد، كلها عوامل ودواعي تجعلنا اليوم قبل أي وقت آخر لمن يرعى ويكون حام ومدافع شرس عن كل ما هو مرتبط بالبيئة ومستقبل العيش في أرض هذا البلد على الرغم من أنه في الحقيقة يشكل مسؤولية الجميع.
إننا في حاجة ماسة لأحزاب بيئية خضراء لأنها من ستشكل الفارق، ومن ستكون الاختيار الثالث من بين ما هو موجود على الساحة، أحزاب قادرة على خلق نقاش بيئي حقيقي، وأحزاب قادرة على مواكبة واستيعاب حجم ومستوى الإشكاليات البيئية العميقة التي تعيشها البلد، أحزاب قادرة على المبادرة والقطع مع سلوكات الإتكالية والانتظارية المعروفة عن مثيلاتها الموجودة اليوم، أي في الحاجة إلى أحزب في استطاعتها تقديم البدائل والحلول المرجوة للعديد من المشاكل والتحديات التي نعاني منها اليوم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.