السؤال المحوري الذي يُطرح اليوم في أجواء الأزمات والصراعات التي تعصف بالعالم الإسلامي والتي تختلط فيها عّم معطيات السياسة بالدِّين، وصعود موجات الإرهاب والعنف الذي يشرعن نفسه بالإسلام، هو: ما موقع الإسلام في السياسة؟ أو ما الموقع الذي يجب أن يشغله في السياسة والحياة العامة؟ وهل يمكن أن يلعب دورا بناء في الساحة الداخلية والدولية اليوم؟
لا شك أن الإسلام شانه في ذلك شان الديانات التوحيدية الكبرى ليس على نمط واحد أو صورة واحدة، بل خضع في التاريخ ولا يزال لخيارات تأويله مختلفة، تتراوح بين التشدّد والانفتاح، والمنحى النصي والعقلاني، والبعد الروحي الزهدي والجهادي السياسي وغيرهما.
وقد كان أداء الإسلام التاريخي في المجمل أفضل من المسيحية الوسيطة حيث امتزج مع التسامح والتعدد الديني والإثني ونشأت في أحضانه مدارس كلامية وفقهية وتيارات فلسفية متنوعة. كانت قصور الأمراء والسلاطين عامرة بالمناظرات الفكرية والعلمية بين اللغويين والفلاسفة والفقهاء والمتكلمين من كل الاتجاهات في أجواء من السماحة العالية، وذلك خلافا للطابع الانفجاري والعنيف الذي تتسم به الكثير من تعبيرات الإسلام اليوم.
كنت تحدثت في مرات سابقة بأنه لا يوجد إسلام جوهري في حد ذاته خارج ظروف الزمان والمكان، بل يوجد إسلام متأثر بأوضاع البيئة السياسية والثقافية العامة التي يشتغل ضمنها. ولسوء الحظ فإن أجواء الصراعات والانقسام والتدخلات الخارجية التي تعصف بالعالم الإسلامي في مواقعَ عدةٍ اليوم تؤثر إلى حد كبير على التعبيرات السياسية والاجتماعية الإسلامية.
الإسلام في ماليزيا أو إندونيسيا أو سلطنة بروناي مثلًا، والتي تتمتع كلها بنوع من الاستقرار السياسي العام، يبدو هادئا ومسالما، مثلما يمثل طاقةً محفزةً على التنمية السياسية والاقتصادية، في حين أن أفغانستان والعراق وسوريا مثلا التي تعاني كلها من أزمات سياسية وتدخلات عسكرية خارجية، تبدو فيها التعبيرات الإسلامية في حالة هيجانٍ وعنف.
هذا ما يؤكد أن المناخ السياسي العام يوجه إلى حد كبير الخياراتِ الثيولوجيةَ والاتجاهاتِ الفكريةَ في العالم الإسلامي. طبعا هذا ليس قانونا فيزيائيا حتميا، ولكنه يفسر الملمح َالعامَ للخارطة الفكرية والدينية في العالم الإسلامي.
يبقى السؤال المطروح هنا هو: ما هو الموقع السياسي الذي يمكن أن يشغله الإسلام في وضع طبيعي وصحي؟ وما معنى أن يعتمد سياسي أو حزب ما المرجعية الإسلامية؟ وهل العلمنة هي الخيار الحتمي والأمثل ضرورة للعالم الإسلامي؟
خلافا للتصورات السائدة بأن الدين يفقد موقعه تدريجيا لصالح التصورات الدّهرية تساوقا مع تقدم مشروع التحديث، فإن الظاهرة التي تشد الانتباه في العالم الإسلامي هي أن الإسلام لا يزال يشغل مواقع متقدمة في الحياة العامة والخاصة للمسلمين، وهو أكثر فاعلية بين الفئات الحضرية والمثقفة منه بين الفئات الريفية وقليلة الحظ في التعليم.
الفتاة الحضرية الجامعية تبدو أكثر تديّنًا اليوم من المرأة الريفية الأمية التي لم تغادر حدود قريتها النائية قطّ، بما يؤكد أنه لا يوجد ارتباط حتمي وخطي بين العلمانية وانتشار التحديث والتعليم. التحدي المطروح اليوم ليس أن يوجد الإسلام أو لا يوجد، بل ما هو الشكل الأفضل والأنسب الذي يحضر به الإسلام؟
يمثل الإسلام مصدرا للقيم الأخلاقية والروحية العامة، وبهذا المعنى يمكن أن يشكل طاقةً حيويةً لدعم قيم العدالة والمساواة والتعاون والتعارف بين البشر، سواء حضرت هذه القيمُ العامة بصورة مباشرة بالإحالة إلى مصدرِها الديني، أم من خلال تحولها إلى قيمٍ مدنيةٍ عامةٍ مساعدةٍ على تماسك النسيج الاجتماعي ودعم أسس العيش المشترك.
صحيح أن السياسة هي بحث عن المصالح في ظل توازنات القوة، بيد أن استلهام هذه القيم الإسلامية العامة يساعد على توجيه السلوك السياسي وضبطه بالقيم الأخلاقية والروحية..
كما أن الإسلام يتمثل في ما يمكن تسميته بالثقافة السياسية التي تزود الأفرادَ والمجموعاتِ بالمخزونِ الرمزيِّ والدلالي المنتج للخطاب والموجّه للسلوك. السياسي الذي يستند إلى المرجعية الإسلامية هو ذلك الذي يستلهم هذه القيم العامة في مجال نشاطه ويعتبرها موجهة لخطابه وفعله السياسي.
لقد اكتسبت الحداثة بتعبيراتها المختلفة بعدا كونيا فرض نفسَه على جميع الثقافات والحضارات. ورغم غلبة البصمة المسيحية المعلَنة على هذه الحداثة، إلا أنها في الحقيقة مُنتَج لتتالي الثقافات والحضارات عبر قرونٍ عّدة. الحداثة ليست كيانا ميتافيزيقيا مجرّدا، بل هي مسار تاريخيّ غير مكتمِل ينفتح على إمكانات متعدّدة. من هنا تتأتّى أهمية الإسلام المعاصر في التفاعل مع رصيد الحداثة أخذا وعطاء، بما في ذلك فكرة المواءمة بين الإسلام والديمقراطية، لإنتاج حداثة (أو حداثات) إسلامية تستفيد من مكتسبات الثقافة الكونية، ولكنها تتغذى من مَعين ومختزنات الثقافة الإسلامية بتوجهاتها الأخلاقية والروحية.
المطلوب من السياسي المسلم إذن هو أن يتغذى من هذين المنبعين اللذين لا غنًى عنهما: الإسلام والقيم الحديثة وأن يمزج بينهما.
إن الدولة الأفضل للعالم الإسلام برأيي هي المحايدة التي لا تحتكر الدين ولا تنصّب نفسها وصيةً على ضمائر الخلق، بل يقتصر دورها على تنظيم اختلافات المجتمع وضمان حريّات الناس وحماية الأمن العام. ولكنّ حيادَها إيجابيٌّ بمعنى أنها تحترم ثقافة المجتمع وقيمَه العامةَ من دون تدخل أو إكراه.
المطلوب من هذه الدولة هو أن تحمي حرية الاعتقاد والضمير وتتيح المجال أمام الناس للتعبير عن أفكارهم وعقائدهم بصورة حرة. بهذا تنطبع بروح المجتمع ووجهته العامة دون أن تكون طائفيّةً أو عقائدية تستولي على الدين والعقائد لتوظفهما لأجندتها الخاصة.
من الصّعب أن يقتصر دور الإسلام على الحيّز الخاصّ وداخل حدود المسجد، فللإسلام أبعاد اجتماعية وسياسية لا يمكن إنكارها. ربما يعود هذا في جانب من جوانبه لكون الإسلام دينا دنيويا اقترنت بداياته وتطوره بنشأة الدولة، خلافا للمسيحية التي ارتبطت ولادتها بالاضطهاد والخضوع لسطوة الدولة الرومانية. من ثمّ فإنّ حضورَ الإسلام سيظل فاعلا ونشيطا في الحياة العامة للمسلمين.
التحدي اليوم هو كيف يمكن للعالم الإسلامي أن يحافظ على الطاقة الروحية والأخلاقية الهائلة التي يمتلكها الإسلام فيكون له أثر وحضور ملموس في الحياة الخاصة والعامة للمسلمين دون أن يتحول الدين لأداة توظيف بيد الدولة أو يكون عنصرا مغذيا للانقسامات الطائفية والمذهبية، بل عاملا مساعدا على تماسك النسيج المجتمعي ومصدرا للتوازن النفسي للأفراد والمجموعات في عالم تطغى عليه النزعات المادية والعدمية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.