من أواسط مايو/أيار ولمدة نحو أسبوعين كنت رفقة ناشطين عرب آخرين في جنوب إفريقيا للاطّلاع على تجربتها في المصالحة المجتمعية والسلم الأهلي بما رافق ذلك من زيارات لمؤسسات وناشطين، في إطار برنامج جوار المنبثق عن منتدى الشرق، وكانت التجربة جداً خلّاقة وولّدت نوعاً من الشعور أننا بحاجة لدراسة تجارب الغير والاستفادة منها، وأننا لسنا بدعاً من الشعوب ولسنا مميزين متفردين في ذاتنا نحن في بلاد المشرق العربي، ومع خصوصيتنا الثقافية والدينية، ولكن يمكن الجزم أننا كما الآخرين ونشابههم بقدر معين بالتجارب الإنسانية والحسية والوجدانية، وكذا المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإن كان بتفاوت وبحاجة لتقنين وتوجيه نسبي يتناسب مع سياقنا.
تجربة جنوب إفريقيا في المصالحة المجتمعية بين سودها وبيضها، التي ناضل من أجلها نيلسون مانديلا ورفاقه، وبعد ما يربو على عقدين من تدشينها، ما زالت تعاني بعض العثرات على الطريق، وهذا يدل على أن المصالحة المجتمعية وبناء المجتمعات والدول من جديد هي سيرورة يمكن أن تمتد لسنوات من بعد صيرورة، كما هو الحال في جنوب إفريقيا في التحول من التمييز العنصري المقنن، لمنعه المقنن كذلك.
وهنا أُشير إلى عدة إضاءات أراها ضرورية للتجربة الجنوب إفريقية؛ للاستفادة منها وأراها دروساً لنا في سياقنا العربي:
1. الانتقال من مرحلة إنهاء نظام الفصل العنصري والتحرر من الأنظمة الديكتاتورية، مرحلة مهمة، والخطوة التالية التي لا تقل أهمية، هي مرحلة بناء الدولة. تجربة جنوب إفريقيا تقول ذلك، فما زال هناك إحساس أن التمييز وإن لم يكن قانونياً اليوم، ولكنه ما زال بأشكال أخرى، والدولة ما بعد إنهاء نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) لم تبنَ بشكل سليم بحيث تضمن سد هذا التمييز.. وهذا ما ينقصنا في عالمنا العربي.. وبناء الدولة يتطلب مبادرات وعملاً دؤوباً ومخلصاً من أجل بلادنا يتشارك فيه السياسيون والناس العاديون.
2. الحاجة لوجود قادة أفذاذ مبدئين بمواقفهم واقعيين بتعاملهم، قادة أصحاب مبادئ ومثابرة ولديهم رصيد من الثقة والإخلاص في مجتمعهم يملكون رؤية ثاقبة وواسعة للانتقال بوطنهم من حاله لحال آخر، هذا لا يعني أن مانديلا كان ملاكاً، ولكنه كان قائداً نجح في قيادة شعبه، وإن كان هذا لا يعني أنه لم يكن خلاف حول شخصه، ولكنه عمل بمبدئية ضد التمييز والفصل العنصري وبمبدئية أخرى تقول إنه يجب أن نعيش كمجتمع جنوب إفريقي معاً فلا البيض ولا السود ولا الملونون إلّا جزء من الطيف الإفريقي، كما أن حال عالمنا العربي هو طيف من فئات اجتماعية وقومية لا مفر من أن تعيش معاً وفق ضوابط ترعاها مبادئ العدالة والإنصاف.
3. انتقلت العنصرية في جنوب إفريقيا.. من إطار الفصل العنصري على أساس اللون.. إلى نوع من الفجوات المبنية على أساس وضع اجتماعي واقتصادي كمخلّف من مخلّفات الأبارتهايد (وهذا يشير إلى أن تجربة مانديلا لما تكن كاملة وكان فيها نقص، وعلى الأجيال اللاحقة الاستمرار في تعديل المسار بمبدئية وحكمة مع وجوب المحافظة على المصالحة وسد الفجوات وهذا كذلك ما نحتاجه في عالمنا العربي) وفي سياق دور الدولة، تكمن هنا الوظيفة الأساسية للدولة في البناء من جديد بشكل يضمن إعطاء السود فرصاً للتطور والنمو من خلال تشجيع التعليم والاستثمار والصحة.. وكذا الحال في عالمنا العربي فالخروج من أنظمة الظلم ليس بالضرورة معناه الانتقال مباشرة من الوضع الاجتماعي البائس الذي برواسبه يؤصل لفكرة الاختلافات والتميّزات المجتمعية، وبالتالي على الدولة من جهتها سد هذه الثغرات.
4. سؤال العدالة كان حاضراً في جنوب إفريقيا، فالشعور بالغبن والإجحاف ما زال بادياً عند الطرفين من البيض والسود، وإن كان عند السود بشكل أكبر، فمصالحة دون عدالة يبدو ستمر بعثرات ومصالحة دون تنازلات سيعوقها الكثير؛ لأن أي طرف لن يقبل بخسارة كاملة (مع الأخذ بالاعتبار حجم جرمه وحاجة ردعه)، وبالتالي المعادلة التي تضمن للطرفين حقه وتضع نصب عين صانعيها مصلحة الوطن ومستقبل أبنائه والتنازل يكون من أجل ذلك وفي حدوده. بكلمات أخرى حياة كريمة ودحر التمييز كان بذاته بديلاً يستحق التضحيات وتكمن التوازنات في نوع التنازلات من أجل تحقيقه وعدم عودته.
5. في جنوب إفريقيا، وإن كانت المناصب السياسية بيد السود اليوم، ولكن الشعور العام أن مفتاح الوضع الاقتصادي والإداري ما زال يدار بعقلية (وشخصيات) من البيض، بما يترتب على ذلك، قصداً أو من دون قصد، على وضع السود المتدني قياساً بالبيض وشعورهم بالإجحاف أو عدم تقدمهم اقتصادياً واجتماعياً، كما أن العلاقات وحتى التقسيمات الاجتماعية والسكانية المنفصلة كلها تدل على عدم اكتمال المصالحة وترسّخها بعد (ممكن لظروف موضوعية وليس عنصرية)، ولكن إن دل كل هذا فيدل على عدم النجاح في التحول لدولة المواطنة أو الشعور أنها دولة الجميع، وبالتالي لا يمكن الحديث عن النموذج الجنوب إفريقي، وإن كان بالقطع يمكن الحديث عن التجربة الجنوب إفريقية التي نجحت في جوانب ولم تنجح في أخرى، وبالتالي الحاجة للتشاركية والثقة المتبادلة بين أطراف ومكونات شعوبنا في العالم العربي هي مفتاح مهم في بناء الأوطان والإنسان.
هذه بعض النقاط والإضاءات من تجربة جنوب إفريقيا، يمكن أن نختلف في قراءتها، ولكن لا يمكن إغفال الحاجة للاستفادة منها في سياق مشرقنا في سبيل النهوض به، وأخيراً يجب أن لا نتغاضى عن الأسباب العميقة للنزاعات ومحاولة الوقوف عندها بعين متطلعة للمستقبل تعلم أن الحرية والكرامة مهمة، ولا تغفل عن جوع الناس وضعفهم وعوزهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.