أكثر من ألف سنة مرت على معاناة الحلاج.. هذه الشخصية الحالمة بعدما خرجت من خلوتها لرحاب الحياة الأوسع اصطدمت بحياة لا تشبه حياة الخلوة ولا حياة طلبة القرآن ولا حياة شيوخ القرآن، اصطدم بالمجتمع العباسي بكل أمراضه، من عصبيات مذهبية وقبلية وشعوبية، وترف ومجون، في تلك اللحظات بالذات بدأت مأساة الحلاج تتكون وبدأت أفكاره تتجمع وخططه تتجلى ومساره يتضح.
إنها ليست مطالعة تاريخية، إنها قراءة في الواقع، هل كان صلب الحلاج يوماً أسود في التاريخ وهل كان قرار الخليفة العباسي بقتل الحلاج صائباً؟ لم يختلف الناس فى آرائهم حول رجل كاختلافهم عليه… عشاقه يعتبرون أنه بلغ درجة لم يبلغها أحد غيره… وأعداؤه أقروا بجنونه وألصقوا به صفة الدجال الذي يستهوي العامة بحديثه وأشعاره.
قال عنه فريد الدين العطار: بأية حماسة فيضية وحمية وجدانية قامر هذا العاشق برأسه ودفعه مهراً لمعتقده كيما يظفر بجوهرة الجمال الإلهي.
وعنه أيضاً قال طه عبدالباقي: منذ أكثر من ألف عام تركز سمع الدنيا وبصرها على الخاتمة الفاجعة لأعجب صراع شهده تاريخ الفكر الاسلامي.. إنه أشهر المتصوفة في العالم الإسلامي، رجل تناسته الأيام حتى كاد يكون أسطورة يتناقلها المتهامسون باطناً أو ظاهراً.. شخصية مثيرة للجدل أحرقت كتبه… وحتى جسده ونثر الرماد في نهر دجلة وكل ما كتب عنه يظهر أنه كان زنديقاً كافراً فهل كان فعلاً كما قالوا؟!
يقول ابن كثير: هو الحسين بن منصور بن محمي الحلاج أبومغيث، ويقال أبو عبدالله، كان جده مجوسياً من أهل فارس من بلدة البيضاء.
أما المستشرق "ماسنيون" فيقول إن البقعة التي ولد فيها كانت من أعظم مناطق النسيج في الإمبراطورية الإسلامية، وإن والده كان من عمال النسيج ولهذا سمي حلاجاً.. وهو على ما يبدو استنتاج فكري..
ويقول ابن خلكان في "وفيات الأعيان" إنه ساعد رجلاً من واسط… "قطان" في حلج قطنه وعندما عاد الرجل وجد أن كل قطنه محلوجاً وكان 24 ألف رطل!! ذهل الرجل، وأطلق عليه اسم "الحلاج" ولازمته هذه الكنية طوال حياته.. لكنه أضاف رواية أخرى تقول إن أهل الأهواز أطلقوا عليه هذه التسمية؛ لأنه كان يكاشفهم بما في قلوبهم فسموه "حلاج الأسرار"، لفت الأنظار إليه منذ طفولته بذكائه وشفافية روحه وتفتح قلبه وحبه للعلم والمعرفة، حفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره وتعمق في فهم معانيه تعمقاً ليس من طبيعة الطفولة الغضة، عرف بكثرة الصلاة والتأمل والإرادة القوية، قصد العراق لطلب العلم من مشايخها، تتلمذ على يد مشايخ الصوفية أمثال الجنيد بن محمد وعمر بن عثمان المكي.
سلك الحلاج في التصوف مسلكاً وعراً؛ إذ ألقى بنفسه في غمار الحضرة الإلهية، غير هياب مما سيؤول إليه حاله؛ حيث البيئة النفسية والثقافية والتطور العقلي للبشرية في ذلك الزمان لم تكن مستعدة لتقبل تلك الأفكار الفلسفية.
تحولت حياته وموته إلى أسطورة وجدل في التراث الإسلامي، فهناك من يؤكد زندقته وفساد اعتقاده، ومنهم من رأى أن الحلاج قد ظلم وأن مقولاته لا تخرج عن الدين، فمن أعجبوا بفكر الحلاج لم يجرؤ الكثير منهم على التصريح باسمه في كتبهم التي ألفت بعد مقتله، كما فعل السراج الطوسي في موسوعته عن الصوفية "اللمع" الذي استشهد بكلام الحلاج في أكثر من خمسين موضوعاً من كتابه دونما أن يذكر اسمه، ولم يبتدئ الجهر باسم الحلاج إلا بعد قرابة مائتي عام في الحادي عشر الميلادي؛ حيث بدأ كبار المتصوفة يصرحون باسمه ويذكرون مقالاته ويشهدون بفضله وسعته، فقد أشاد به أبوحامد الغزالي وابن عربي وعبدالغني النابلسي، وصنفه المتصوفة المتأخرون باعتباره "متوحداً بالوجود".
أول ذكر للحلاج في النتاج الاستشراقي الغربي في القرن السابع عشر، وفي القرن الثامن عشر بدأت تظهر الدراسات المتخصصة عن الحلاج، ولا سيما كتابات "يوهان ياكون رايسكة" الذي تبنى الرواية العباسية واعتبر الحلاج مجدفاً، ثم جاء من المستشرقين "بارتلوم دي هيربلوت" و"أوغست موللر" و"إدلبرت ميركي" الذين اعتبروه متصوفاً بسبب أفكاره وجعلوا منه بطلاً ثورياً شبيهاً بأساطير الغربيين، كما ظهرت مدرسة يمثلها "فون كريمر" و"ماكس هورتن" تعتبر أن الحلاج كان يؤمن بالديانات الهندوسية القديمة وأن صرخته (أنا الحق) هي تجلٍّ لصرخة "أنا براهما" في كتاب "الأوبانيشاد" الهندوسي، فيما يتبنى البعض الآخر من أمثال "آن ماري شيمل" نظرة الصوفية الجديدة إلى الحلاج باعتباره "الشخصية الموحدة للوجود".
جاء فى كتاب "شخصيات قلقة" للدكتور عبدالرحمن بدوي: ويبقى الحلاج أحد كبار الفلاسفة الذين أثاروا جدلاً متواصلاً حتى اليوم… وما تزال أقواله ذات طابع حضاري عميق الأثر وأكثر صدقاً من الناحية الاجتماعية.
ذلك هو الحلاج الشهيد الحي الذي قدم للدنيا صورة الولاية الكبرى.. وقد بلغت أوجهها في تضحية مليئة بالرجولة.. مليئة بالإلهام.
لثلاثة أيام وليلتين وهو يعاني أشد العذاب من صلب وجلد وتقطيع وهو يبتسم، لم ينطق بحرف واحد عن ألم ألمَّ به..
قصة الحلاج قصة كبيرة مزعجة بكل تفاصيلها؛ لأن شخصية الرجل تعرضت للظلم على مدى عصور.. لم يرحمه أحد وبقي ذلك الزنديق الكافر… لا يستحق الحياة… ورغم كل أوامر السلطة بإحراق تراث الرجل بقي اسم الحلاج واختفت أسماء كل من ساهم بقتله؛ إذ ليس من السهل محاكمة الفكر، من أجل بقاء ديمومة السلطة، لكن الضمير الإنساني مع قسوة الحاكم مجامل!
يقال إن سبب قتله بسبب إجابته عن سؤال أحد الأعراب الذي سأله عما في جبته، فرد عليه الحلاج: (ما في جبتي إلا الله) فاتهم بالزندقة وأقيم عليه الحد، وقيل إن السبب ربما يكون سياسياً آنذاك، ولما ذُهب به إلى القتل قال لأصحابه: لا يهولنكم هذا، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوماً.
إن هذا المقال ما هو إلا نظرة تعريفية عن الحلاج، مولده ونشأته وفكره من باب العلم بالشيء لا الجهل به.. فهو الصوفي الأكثر إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي، والأعمق أثراً، كان وسيظل نموذجاً في تاريخ الإنسانية، يقف أمامه الباحثون والمتأملون في فلسفته وتنهل منه العقول والقلوب في كل زمان ومكان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.