قبل قرنين من الزمان، تخلى غالبية العرب المسلمين عن زيهم الذي لطالما عرفوا به طيلة آلاف من السنين، ولم يكن الأمر مجرد ترك لملبس خارجي، بل كان نزعاً لهوية راسخة وهجراً لتاريخ طويل من الحضارة والعزة والانتصارات، هذا التاريخ العريق لطالما ظلله الإسلام برعايته واحتضنته التقاليد العربية الأصلية، بما فيها من قيم راسخة وأخلاق حميدة.
في ذلك الوقت، كان الإسلام عزيزاً بخلافته، قوياً بعلمائه، صافياً في مبادئه، نقياً في أحكامه يسير على نهج تراث راسخ تركه لنا نبينا وصحابته الكرام والتابعون وكبار العلماء.
وبين عشية وضحاها، أضحت الأمة العربية الإسلامية فريسة بين براثن الاحتلال والاستعمار، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. فأصبحنا نسير وراء الغرب في كل شيء، نحل ما يحلونه ونحرم ما يحرمونه، تجسيداً لما تنبأ به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، حين قال: "لتتبعن سنن ما كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم"، لقد خلعنا خمسة أشياء كانت سبباً فيما نحن فيه من الوهن والضعف والتخلف.
أول ما خلعنا كان الدين، نزعناه من قلوبنا قبل حياتنا، فلم نعد نذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً: أمرين بينين، كتاب الله وسنة نبيكم"، فعلى مدار قرون عديدة، كان القرآن الكريم والسنة النبوية هما المرجع الأساسي في كل حياة المسلمين في دينهم وقوانينهم ومعاشهم ومماتهم ومعاملاتهم، بهما صنعوا حضارة عريقة جاوزت مشارق الأرض ومغاربها، ومن خلالهما توسعت أراضيهم شمالاً وجنوباً لتكون عصراً إسلامياً ما كادت الشمس تغرب عنه أبداً.
ثاني الأمور التي هجرناها كان العلم بكل ألوانه ومسمياته، ونسينا أننا أمة أسست عقيدتها وحضارتها على أول كلمة نزلت في القرآن "اقرأ"، بل ضاعت من ذاكرتنا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن: "وقل ربي زدني علماً"، أكثر من ذلك، أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم كان عظيماً في أسرى بدر عندما جعل فدية كل أسير تعليم عشرة من أبناء الأنصار في المدينة، بما في ذلك من إشارة ودلالة على اهتمام الإسلام بالعلم منذ البدايات المبكرة. وعلى مدار القرون التالية، كان للعلم مكانة رفيعة لدى المسلمين، سواء الدنيوي أو الديني، وبلغ اهتمام المسلمين بالعلم شأناً عظيماً في الخلافة العباسية، حينما كان الخليفة العباسي عبدالله المأمون يعطي لكل مترجم وزن ما يترجمه من كتب ذهباً، فكان العلم المرتكز والمعول والمبتغى والمرجو لكل طفل وشاب وما هرم من الرجال والنساء.
وكانت الأخلاق والقيم ثالث ما تركناه، ونسينا أن العرب في جاهليتهم وقفوا موقفاً تجسدت فيه مروءة ونخوة العربي الأصيل، حين تعاهدت قريش فيما بينها على أن تكون يداً واحدة على الظالم حتى يأخذ المظلوم حقه مهما بلغت النتائج، فكان حلف الفضول في الجاهلية نموذجاً للتآخي وتقاسم المغارم، وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي بي حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت"، فأين مروءة وشهامة العرب مما يحدث لإخوانهم في الدين والعروبة في كل بقاع الأرض؟
لكن الأمر الرابع هو الأكثر كارثية، وهو التخلي عن الأخذ بأسباب القوة والنصر والتذرع برحمة الإسلام وسماحته، نعم الإسلام دين الرحمة والتسامح، لكن رحمة الإسلام لا تظهر إلا عند القوة، وعفوه لا يظهر إلا عند المقدرة، وإن الرحمة والتسامح لا يتعارضان أبداً مع كون الأمة قوية، ولا يتعارضان أبداً مع الدفاع عن النفس والعرض والأرض. فالقرآن الذي نادى في بضع آيات بالرحمة تجسدت فيها عظمة الإسلام، هو أيضاً الذي نادى في العديد من آياته بحث الأمة على أن تكون قوية لترهب أعداءها وتنتصر لنفسها، فمن قال في آياته "فبما رحمة من الله لنت لهم" هو من قال: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"، والنبي الذي قضى ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو الناس إلى عبادة الله بالبر واللين واليسر، هو أيضاً من قضى عشر سنوات من حياته في المدينة يجاهد في سبيل الله لا يخشى إلا الله، وهو من جاهد المشركين والفرس والروم.
وآخر ما خلعنا كان الحياء، نزعنا الحياء من حياتنا، فأصبحنا نفعل كل قبائح الأشياء دون حياء ولا استحياء ولا اكتراث لدين ولا خُلق، وغفلنا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام هو الحياء"، بل جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم جزءاً من الدين، فقال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان".
لقد كنا حضارة بالدين والخلق والعلم والقوة والحياء، فأصبحنا بلا شيء عندما يممنا وجوهنا صوب الحضارة الغربية دون عقل ولا وعي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.