نحو تصور إسلامي لأخلاقيات العمل

المشكلة الأخلاقية في عالم الأعمال هي نفسها في عالم السياسة والاقتصاد والاجتماع الإنساني، فبسبب من الانحسار المعرفي والحضاري الذي عانى منه الشرق ردحاً طويلاً من الزمن هيمنت عقدة النقص على العقل العربي

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/14 الساعة 03:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/14 الساعة 03:04 بتوقيت غرينتش

شهدت أواخر القرن التاسع عشر المحاولات الأولى لبلورة علم إدارة الأعمال في صورته الأكاديمية الجامعية باعتباره علماً مستقلاً بذاته يدرس بشكل منهجي، وبذلك انتقل مفهوم الإدارة من كونه مجرد مهارات قد يكتسبها الإنسان من خلال الدُربة والتفاعل مع المحيط والتعلم من الخطأ والتجربة، إلى حقل مستقل يكثف المهارات الإدارية في صورتها النظرية، الأمر الذي يختصر على الفرد الكثير من العناء اللازم لاستقراء البديهيات الإدارية، ويكفيه مؤونة التجربة العشوائية لاكتساب هذه المهارات، التي قد تنتهي بإخفاقات قاسية.

ومع تطور علم إدارة الأعمال كحقل أكاديمي رئيس، وكتاريخ كافة العلوم، بدأت تظهر داخله تخصصات تنظيمية ثانوية (ذات علاقة بمنظمات الأعمال)، وذلك استجابة أكاديمية للمشاكل والتحديات الإدارية التي يشهدها عالم الأعمال في واقعه التطبيقي داخل المؤسسات والشركات.

وإلى جانب التخصصات الثانوية في علم الإدارة، مثل السلوك التنظيمي، وإدارة الإبداع والابتكار، والقيادة، وإدارة الموارد البشرية، والبحث والتطوير، ظهرت أخلاقيات العمل "Business Ethics" كمبحث إداري يستهدف تنظيم السلوك المؤسسي وضبط تصرف الكوادر البشرية وفقاً لأنظمة ولوائح داخلية، أو وفقاً لتنظيمات خارجية يفرضها القانون، أو التزاماً بعضوية مؤسسة الأعمال في منظمات محلية أو عالمية تفرض عليها ضبط سلوكها بما يحقق ما يسمى بالممارسات المثلى في الإدارة، ومكافحة الفساد الإداري، وضمان بيئة عمل صحية، وإنصاف الموارد البشرية، ودعمها وتأهيلها وتطويرها باستمرار، والالتزام تجاه البيئة… وغير ذلك من الممارسات غير الربحية.

ولكن المتأمل في "أخلاقيات العمل" في العالم العربي، سواء من الناحية النظرية؛ حيث تدرس في الجامعات، أو من ناحية تطبيقها في مؤسسات الأعمال، يلحظ أن جوهر الالتزام بها ليس دافعاً أخلاقياً؛ إذ يجري تدريسها وتطبيقها باعتبارها تعليمات مجردة جافة، وتفتقد في جوهرها إلى القيمة المبدئية للأخلاق؛ بحيث تقوم على تصور استعمالي للسلوك الأخلاقي التجاري وليس تصوراً مبدئياً، بمعنى آخر فإن الفرد في المؤسسة يلتزم سلوكياً تجنباً، لأية عقوبات مفترضة، وأحياناً كي يُنظر إليه على أنه موظف مثالي يحترم القوانين واللوائح الداخلية فيكرم. وتلتزم مؤسسات الأعمال بالأخلاق حتى تنأى بنفسها عن التبعات القانونية في الدولة. وبهذه الطريقة تصبح القيمة الأخلاقية مادة ربحية أو تسويقية أو إجرائية وليست قيمة سامية في حد ذاتها، بحيث تفرغ القيمة الأخلاقية من محتواها المبدئي. ولا تختلف الرؤية النظرية للأخلاق في المعاهد الأكاديمية عنها في عالم التطبيق والممارسة الواقعية.

وعلى الرغم من أن علم الإدارة يدخل في إطار المشترك الإنساني العام، بحيث لا تكتسي المبادئ الإدارية بأي بُعد متعلق بالهوية الثقافية للأمم، ويسوغ تبادل الخبرات والمهارات الإدارية بين كافة المجتمعات بحسب ما توصل إليه الإبداع البشري في هذا المجال بغض النظر عن هويته الدينية أو الثقافية، فإن الجانب الأخلاقي في الإدارة يجب أن يحافظ على الخصوصية المحلية، ويراعي الاعتبارات الثقافية والبصمات الحضارية للأمة.

في حين نرى أن الجامعات والمعاهد الأكاديمية العربية ما زالت قاصرة عن ترجمة هذا البعد في مساقات "أخلاقيات العمل" التي تدرسها، لا سيما أن معظم المساقات التي تدرس في كليات التجارة هي مساقات أميركية تحافظ على الروح البراغماتية الغربية لفكرة الأخلاق، وتعكس انتهازية مادية صارخة، ويجري تداول هذه الروح في الوسط الأكاديمي العربي دون مراعاة للسياق الثقافي العربي الإسلامي، ولذلك يكثر على ألسنة أساتذة الاقتصاد والأعمال في الجامعات العربية مقولة "المشروع التجاري لا يعرف الدين والوطن"، وأن الهدف الأساسي للمشروع هو تعظيم المنفعة فقط، ويجري تقديم بعض المواقف غير الأخلاقية في عالم الإدارة باعتبارها مسائل يسوغ فيها النظر أو أنها "معضلات" لا يمكن حسمها بحيث يبقى الاعتبار لصالح الشره المادي وتعظيم اللذة والمنفعة، كما أن كثيراً من الأمثلة التعليمية في هذه المساقات تصادم البديهيات الثقافية للمجتمع العربي الإسلامي.

تفرق العقلية الغربية بين الالتزام القانوني درءاً للتداعيات والآثار العقابية المترتبة على الفرد، إن قارف سلوكاً ممنوعاً يحظره القانون (law) وبين الالتزام الأخلاقي الذاتي (morality) الذي يفعله الفرد إيماناً منه بالقيم السامية لا خوفاً من العقاب، وقد تسربت هذه الثنائية المتناقضة "القانوني – الأخلاقي" التي عرفها الغرب إلى عالم الأعمال في العالم العربي بفعل من الهيمنة الثقافية الغربية بشكل عام، والمساقات الغربية في الجامعات العربية التي تكرس هذه الفكرة بشكل خاص.

ولأن التصور الغربي لالتزام الفرد يقوم على فكرة معاقبة المذنب ولكنه لا يثيب المحسن، فإن هذا يجعله تصوراً قاصراً عن صناعة الفرد الصالح المنضبط ذاتياً. في حين أن التصور الإسلام للأخلاق لا يعرف هذه الثنائيات المنتناقضة بين القانوني والأخلاقي؛ إذ إن فلسفة التشريع في الإسلام لا تقوم فقط على فكرة إثابة المحسن وعقاب المذنب، بل إن جانب الثواب يطغى على جانب العقاب، كما أن عدم مقارفة الذنب تستوجب ثواباً حتى دون أن تترافق بعمل صالح، وذلك تكريساً للثقة في هذا الإنسان كي يلتزم أخلاقياً باعتباره خليفة ناضجاً يقوم بهمة عظيمة في الأرض بعمارتها وتنميتها، وليس طفلاً قاصراً يُخوّف بالعقاب كي ينصلح أمره.

المشكلة الأخلاقية في عالم الأعمال هي نفسها في عالم السياسة والاقتصاد والاجتماع الإنساني، فبسبب من الانحسار المعرفي والحضاري الذي عانى منه الشرق ردحاً طويلاً من الزمن هيمنت عقدة النقص على العقل العربي، وانهارت دفاعاته النقدية فلم يعد يفرز الوافد المعرفي في ضوء اتساقه أو اختلافه مع المقومات الثقافية والمعرفية الأصيلة (والوافد هنا التصور الغربي للأخلاق في المساقات الإدارية)، وبالتالي هيمنت الرؤية الغربية الميكافيلية للأخلاق في عالم الأعمال كما هيمنت في الحقول المعرفية الأخرى، ويمكننا أن نتلمس بوضوح تعبير نيقولا ميكافيلي: "ليس أفيد للمرء من ظهوره بمظهر الفضيلة"، في كثير مما يسمى ببرامج "المسؤولية الاجتماعية" للعديد من الشركات التي تتبنى سياسات احتكارية جشعة لا تخطئها عين الناظر، فضلاً عن تغريرها الفاضح بالمستهلك واستغفال عقله في خطابها الإعلامي، ومع ذلك تظهر بمظهر الفضيلة في عدد من الاستعراضات الخيرية أمام الكاميرات، لا سيما أن وسائل الإعلام تغض الطرف عن تجاوزاتها الأخلاقية بحكم ارتهان خطابها الإعلامي لصالح رجال ومؤسسات الأعمال، نظراً للزواج الكاثوليكي الذي يجمع الطرفين بحكم الدعايات والرعايات الترويجية التي تشكل مصدر الدخل الأهم لوسيلة الإعلام.

الرؤية الإسلامية ترى القانون شكلاً والخلق الذاتي روحاً، فإذا فارقت الروح الأخلاقية القوانين أصبحت تشكيلات إجرائية ميتة؛ ومن هنا يظهر البعد الحضاري للتشريع في الإسلام، فالالتزام بالعمل الصالح أعمق بكثير من كونه قيداً لا مفر من الخضوع له؛ بل فضيلة سامية تكرس إنسانية الفرد، وتقيس مدى انسجامه وتفاعله الخلاق مع الإنسان والطبيعة، وهو في عالم الأعمال ينطوي على أكثر الأعمال التنموية نبلاً وأخلاقية ومثالية؛ لأنه يتغيَّا السلوك الأخلاقي لذاته كقيمة فضلى، وليس كحلقة استهلاكية في سبيل التكديس والتجميع المادي الرأسمالي، إضافة إلى أن السلوك الأخلاقي الذاتي لمؤسسة الأعمال يضبط إيقاع العمل وفقاً للمصلحة الجماعية، ويكبح النزوات أو التجاوزات الفردية التي تغفل عنها الثغرات الرقابية، وعليه فإن الجامعات العربية مطالبة اليوم بتكييف مساقات العلوم الإدارية والمالية، الصادرة عن الجامعات الغربية، بما يتناغم مع التصور الإسلامي للقيمة الأخلاقية، وأن لا يجري "تشييؤها" وتسليعها استجابة لنداء النهم والشره الرأسمالي، كما أن وضع مساقات ترتكز على التصور الإسلامي لفكرة الأخلاق هو مسؤولية في عنق الجامعات العربية والإسلامية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد