شتان بين ما صُنع في جمهورية الصين الشعبية وما صُنع في جمهورية مصر العربية، في الأولى يكفي أن تضع في حوزتهم المنتج الذي ترغب فيه، وما عليك سوى الانتظار لدقائق أو لساعات على أكثر تقدير حتى يكون المرغوب فيه بين يديك لاستعماله أو بيعه أو غير ذلك.
أمّا في حالة مصر، فالمنتج ليس استهلاكياً ولا بلاستيكياً، بل هو منتج فكري محض.
الفرق شاسع بين المصنوع في بلاد الفراعنة والمصنوع في بلاد التنّين، ومع ذلك لم نسمع قطّ بأحد يوبّخ مصر كما عهدنا ذلك مع المنتج الصّيني، إذ إن عبارة "صُنع في الصّين" أضحت منتشرة حتى في الأوساط الاجتماعية العربية، بين الأفراد وبين العائلات، في وصفهم لشيء يفتقد للجودة أو تنقصه تماماً.
لهذا السبب شبّهت ما توارثناه من دين وأدب وعلم وفكر وفنّ وسياسة بما تصدّره جمهورية الصين الشعبية للعالم من أدوات وسلع استهلاكية تفتقد أحياناً للجودة؛ لأننا بقينا لعقود من الزّمان محبوسين داخل قوقعة "أمّ الدّنيا"، وما صدّرته لنا من مفاهيم تفتقد للجودة أحياناً وتقلّ فيها أحيانا أخرى، وإذا ما عدنا بالذاكرة إلى الوراء فسنستنتج أنّ محيطنا استنسخ مفاهيمه طيلة سنوات من مفاهيم مصر وحكّامها دونما أي تشكيك في صحّتها على غرار مفهوم القومية العربية وغيرها من المصطلحات الرنّانة التي لم تنزل لأرض الواقع بتاتاً، ومع رحيل اسمين لامعين لهما تأثير كبير على الأحداث، كما لهما دور جسيم فيما آلت إليه الأمور حالياً، فكّرت مليّاً في نعيهما على طريقة أحدهما.
الأول وهو بطرس بطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتّحدة ووزير خارجية مصر في عهد السادات، والثاني وهو محمد حسنين هيكل، عميد الصحفيين العرب وعرّاب كل الحقب حسب تعبير الكثيرين، كلتا الشخصيتين اشتركت من قبل في صناعة فكر ومفاهيم الأمّة العربية، بالنسبة لهيكل، فوصفه بعرّاب كل الحقب لم ينبثق من فراغ، بل هو وصف واقعي؛ إذ إن المذكور اسمه سلفاً كان وفيّاً للأنظمة الشمولية، حسب تعبيره، أو الوفاء للاستبداد على حدّ تعبير منتقديه، امتدح هيكل الملك فاروق ووصفه بالفاروق وبعد الانقلاب الذي قام به الضبّاط الأحرار أضحى صديقاً لهم، ما مكّنه من مصاحبة زعيم العرب آنذاك جمال عبدالناصر، وواكب الرّاحل زعم الزّعيم ومن معه قدرتهم على تحقيق النّصر للأمة وكل ما سمعناه من شعارات لم يبق منها سوى الأحرف، بعد الهزيمة النّكراء وخسارة سيناء والجولان، خطّ بقلمه خطاب الزّعيم الذي دعا فيه الشعب المصري والأمة للتوحد خلف راية القومية، مرّت الأيام ومات الزّعيم المزعوم، ولم تمت النّاصرية بفضل هيكل وآخرين، في حقبة السادات واصل حسنين هيكل تأييده للنظام الشّمولي في مصر، ورغم بعض المشكلات التي تسببت في اعتقاله، فإن اعتقال هيكل يعتبره الكثيرون فعل سياسة محكماً، الهدف منه كان تمويه الرّأي العام.
بالرجوع لبطرس غالي، نعلم أنّه كان رجل السادات الوفي، أي هو الآخر رجل نظامي بامتياز، بزغ نجمه بعد تعيينه على رأس الوفد المفاوض لإسرائيل بكامب ديفيد، بعد التوقيع على "السلام المرّ" أصبح بطرس غالي من رجالات السادات، أي بوصف أدقّ، من رجال أميركا في المنطقة على غرار غالبية الضّباط الكبار في الجيش المصري.
اجتمع هيكل وبطرس غالي على مبادئ عدة، ويبقى أخطرها هو "الوفاء للاستبداد"، وتنكيل حريات الشعوب وعدم الإصغاء لمتطلّباتها، ومن هنا تبدأ مسؤوليتنا.
هل هي مسؤوليتنا أم مسؤولية آبائنا؟
نظراً لأن تاريخ ميلادي يوافق أوائل التسعينات، لا أرى حرجاً في توبيخ من سبقونا للعلم والمعرفة والصحافة، كونهم لم يقدروا على وضع كل مفهوم في خانة تناسبه، بل الأخطر من ذلك أن محيطنا المتكوّن من الوالدين والإخوة والجيران والأساتذة انغمس بكامله في تاريخ "أمّ الدّنيا" فكرياً وثقافياً وفنّياً وسياسياً، ما مهّد لنشأة جيل يعشق مصر بحضارتها وثقافتها، بتاريخها وحاضرها، دونما الشّروع في تحليل الأمور بعقلانية، وإعطاء لكلّ ذي حقّ حقّه.
كبرنا في عزّ موهوم، أساسه أوهام باعها لآبائنا أناس كالرّاحلين بطرس غالي وحسنين هيكل، هذا الأخير الذي اعترف صراحة بانحيازه لإيران الفارسية على حساب العرب، كما اعتبر في حديث تليفزيوني معه أنّ "حسن نصر الله" هو زعيم العرب الأحقّ بالتأييد والتّمجيد، وكان من بين أكبر الدّاعمين للانقلاب على الرئيس الشرعي لمصر محمد مرسي من خلال دعمه لحركة "تمرّد" الذي قادت انقلاب الجيش.
يقال إن العبرة بالخواتيم، فعلاً هي كذلك، مسيرة طويلة من التمجيد والتأييد، لُخّص صُلبها في دعم هيكل للانقلاب في مصر ودعمه لإيران وبشّار الأسد على حساب الشّعوب ومتطلّباتها، نفس المصير تقريباً خطاه الرّاحل بطرس غالي بدعمه هو الآخر لسياسة عبدالفتّاح السيسي على حساب الإخوان المسلمين وعلى حساب الشّعب، رغم تحفّظه على القضية السورية، فإن غيابه التام عن تأييد مصير الشعب البوسني في محنته وكذا ضعفه في اتخاذ قرارات جريئة آنذاك في البوسنة، ورواندا والصومال، إبّان فترة ولايته على رأس الأمم المتحدة كفيلة بجعله رجلاً غير صالح لمصالح الشعوب.
من هذا التحليل، نعود سريعاً لمغزى عبارة "صُنع في مصر"، ونستنتج أن الجيش هو الحاكم الأبدي، الخادم للجارة إسرائيل، ومعه رجالاته المختلفة كبطرس وهيكل وغيرهم ممن ساهموا في نشر قيم فكرية مغلوطة، كما ساهم الفنّانون على مدى عقود من الزّمان في تشتيت ذهن المشاهد العربي بمسرحيات عوجاء وأفلام كاذبة، الهدف الأساسي منها الضحك على ذقوننا وجرّنا لبناء أفكار وولادة مبادئ نكراء، لا منفعة منها، ولا أمل فيها!
كفانا استهتاراً بعقول بعضنا البعض، فلا القومية الوهمية ستفيدنا، ولا الثورات البلطجية والحركات التمرّدية، أساس نجاحنا يبدأ بأخلاق حميدة ومبادئ رنّانة، من ثم قد تأتي الشّعارات الرّنّانة وما يرافقها من خطابات وأحلام.
كفانا استهزاء بمنتجات جمهورية الصين الشعبية وهلمّوا لفضح المفاهيم المغلوطة أيّاً كان منبعها، وبما أنّ تاريخ الأمة العربية منبثق بشكل وطيد من مصر، فما علينا سوى الكفّ عن تأييد مفاهيم مغلوطة خاضعة بشكل مباشر لإملاءات خارجية معروفة ومكشوفة.
نعم، مغالطاتنا الفكرية الخطيرة والجسيمة صُنعت في الصين.. عفواً، في مصر!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.