استفحلت الأزمة المالية التونسية في منتصف القرن التاسع عشر، واستحال على الدولة تسديد ديونها الخارجية التي بلغت آنذاك 125 مليون فرنك، وهو ما أدى تحت ضغط بعض الدول الأوروبية إلى تشكيل "الكومسيون المالي" أي العمولة في 5 يوليو/تموز 1869، الذي كان أحد أبرز مظاهر التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للبلاد التونسية، من خلال إخضاع ماليتها للرقابة الدولية حينها؛ لينتهي بها المطاف تحت الحماية الفرنسية بإمضاء معاهدة باردو في 12 مايو/أيار 1881 ثم الانتقال من كونها محمية فرنسية إلى مستعمرة بعد إمضاء اتفاقية المرسى في 8 يونيو/حزيران 1883.
اليوم وبعد قرابة القرن والنصف يبدو وكأن التاريخ يعيد نفسه؛ إذ تعيش البلاد التونسية أزمة اقتصادية ومالية حادة؛ حيث من المتوقع أن تتجاوز نسبة المديونية حدود 53.4% سنة 2016، ومن المتوقع أيضاً تجاوز خدمة الدين 5.3 مليار دينار، منها 1,85 مليار دينار لفوائد الدين و3,28 مليار دينار لأصل الدين، كما تم حصر العجز في ميزانية الدولة لسنة 2016 في حدود 3.8% من الناتج المحلى الإجمالي.
في ظل ظروف كهذه من الهشاشة الاقتصادية والمالية القصوى تواصل حكومة التحالف الحكومي، بقيادة "نداء تونس" سياسات الهروب إلى الأمام وتعمل على سد العجز في الميزانية بمزيد من اللجوء إلى المديونية الخارجية المشروطة، وبالتالي التخلي عن سيادتها واستقلالية قرارها في تحديد خياراتها ورسم سياساتها الاقتصادية والاجتماعية لفائدة صندوق النقد الدولي الذي فرض عليها إصلاحات هيكلية تهم أساساً رسملة البنوك العمومية وتدعيم استقلالية البنك المركزي والشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص ومراجعة منظومة الدعم، والتحكم في كتلة الأجور، ونفقات التسيير والتصرّف العموميّة والمصادقة على مشروع مجلّة الاستثمار الجديدة، وإصلاح القطاع البنكي والمؤسسات المالية، والمصادقة على مشروع الإصلاح الجبائي.
إملاءات صندوق النقد الدولي اجتهدت حكومة التحالف الحاكم في تنفيذها اجتهاد التلميذ المتفاني، لتتم في 06 أغسطس/آب 2015 المصادقة على رسملة البنوك العمومية وفي 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص ، والإعلان في ميزانية 2016 عن التقليص في الانتدابات بالوظيفة العمومية والمضي قدماً في التقليص من الدعم العمومي للمحروقات. كما تم في 11 أبريل/نيسان 2016 المصادقة على مشروع قانون النظام الأساسي للبنك المركزي. ويتم في 10 مايو 2016 تغيير جدول أعمال مجلس النواب لمناقشة والتصويت على مشروع القانون المتعلق بالبنوك والمؤسسات المالية اليوم دون احترام الآجال القانونية المحددة في النظام الداخلي للمجلس، تحت دعوى اشتراط صندوق النقد الدولي لإصدار هذا القانون قبل موعد انعقاد جلسة الصندوق ليوم الجمعة 13 مايو 2016 التي سيدرس فيها منح تونس قرضاً بقيمة 2.8 مليار دولار، وذلك في ظل انسحاب نواب المعارضة اعتراضاً على ارتهان السيادة الوطنية لصندوق النقد الدولي.
بغض النظر عن مدى نجاعة الحلول والإصلاحات المفروضة من صندوق النقد الدولي من عدمها، فإن تطبيق حكومة التحالف الحاكم بقيادة حزب الرئيس السبسي شروط هذه المؤسسة المالية الدولية قد بين مدى استعدادها للتخلي عن مقومات السيادة الوطنية، خاصة أن الأمر لا يقتصر على الارتهان لشروط وبرامج صندوق النقد الدولي فقط، ذلك أن الحكومة قد عهدت بالسهر على تنفيذ وتسويق للمشاريع التي يتضمنها المخطط الخماسي لتونس 2016-2020 لدومينيك ستروس "Dominique Strauss-Kahn" المدير السابق لهذا الصندوق، والمتعلقة به شبه فساد أخلاقي وقضايا، بعد إفلاس البنك LSK الذي أسسه مع تيري لينيس "Thierry Leynes".
هذا وتسعى حكومة التحالف الحاكم، بقيادة حزب السبسي، إلى إمضاء اتفاقية التبادل الحر المعمق والشامل مع الاتحاد الأوروبي، وقد بدأت المفاوضات بالفعل مع 28 مفاوضاً من الجانب الأروبي يوم 18 أبريل الماضي، وفيها سيدرس المفاوضون التونسيون مقترحاً أرووبياً لم يعرض على العموم، وإن تحصل موقع صحفي تونسي على نسخة منه كشفت عن إشكالات قانونية عديدة تتعارض مع مبادئ وفصول الدستور من جهة، وتحمل في طياتها إجباراً للحكومة على التوقيع على اتفاقيات دولية ترفض تونس التوقيع عليها منذ 2001 رغم الضغوط الممارسة عليها وعلى الدول النامية، كاتفاقية المشتريات الحكومية. هذا إضافة إلى ما قد ينجر عن إمضاء اتفاقية التبادل الحر المعمق والشامل مع الاتحاد الأوروبي من انعكاسات سلبية على الاقتصاد التونسي الذي يعاني أصلاً من صعوبات عديدة.
لم تكتفِ الحكومة في التفريط في السيادة الوطنية بتنفيذ ما يمليه صندوق النقد الدولي، أو بالدخول في مفاوضات يفرضها الاتحاد الأروبي لإمضاء اتفاقية التبادل الحر المعمق والشامل مع الاتحاد الأوروبي، بل ترغب في تركيز مسؤولين وخبراء من وزارات أميركية مختلفة داخل الوزارات والمؤسسات العمومية التونسية، وذلك حسب ما جاء في التقرير الأخير حول ميزانية الحكومة الفيدرالية الأميركية المخصصة للشرق الأوسط لسنة 2017 لمنظمة "مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط" الذي نشره الصحفي الاستقصائي محمد ضياء الهمامي، على صفحته في موقع "فيسبوك"، كما تحدث التقرير عن وجود مستشار دائم من وزارة الخزانة الأميركية داخل البنك المركزي التونسي.
كما كشف موقع "نواة" عن وثيقتين تحصل عليهما؛ الأولى تحت عنوان "مذكرة حول الاتفاق المتعلّق بوضعية أفراد القوات المسلحة الأميركية المتواجدين بصفة مؤقتة داخل الإقليم التونسي وأفراد القوات المسلّحة التّونسية المتواجدين بصفة مؤقتة داخل إقليم الولايات المتّحدة الأميركية"، والثانية تحت عنوان "مذكرة بخصوص مشروع الاتفاق المتعلق بالوضعية القانونية للقوات الأميركية خلال تواجدها بتونس". تعطي بنود الاتفاق حق الوجود بالنسبة للقوات الأميركية على الأراضي التونسية، واستعمال ما يرونه مناسباً من معدات دون الحاجة لتراخيص مسبقة، كما تسقط عنهم كل تتبع في صورة الإضرار بالمعدات أو المنشآت، أو "التسبّب بموت أحد أفراد كلا الطرفين من المدنيين أو العسكريّين. فيما تتكّفل الولايات المتحّدة بتسوية مسألة التعويضات وفق ما تراه مناسباً".
هذا وتجدر الإشارة إلى أن الجانب التونسي قد أبدى ملاحظات واقتراحات حول صيغ المصطلحات المستعملة والبنود المبهمة في الاتفاق دون المس بجوهر الاتفاق. هذا التعامل بدونية مع الجانب الأميركي برز بشدة في لقاء السبسي مع وزير الخارجيّة الأميركي جون كيري، خلال أعمال الدورة الثانية للحوار الاستراتيجي الأميركي التونسي في 13 نوفمبر 2015؛ حيث كشفت وثيقة مسربة عن الدائرة الدبلوماسية تدخل كيري في الشؤون الحزبية لـ"نداء تونس" في حواره مع السبسي وتدخله في خصوص الإصلاحات الاقتصادية لتونس، وقد جاء تدخل السبسي لتبرير النسق البطيء للإصلاحات ولتأكيد الموافقة المبدئية على مشروع intelligence, surveillance et reconnaissance المتعلّق بتنسيق الجهود على صعيد الاستخبارات والمراقبة وتبادل المعلومات بين مختلف أعضاء حلف الناتو.
ارتفاع نسبة المديونية وارتهان القرار السيادي الاقتصادي والاجتماعي لبرنامج وتصورات صندوق النقد الدولي والتفاوض في سرية وبشروط الاتحاد الأرووبي وبقوانينه ووجود موظفين أميركيين يراقبون ويسهمون في رسم السياسات في وزارات ومؤسسات حكومية تونسية واتفاقات تعاون عسكري غير متكافئة فيها تنازل عن السيادة الوطنية، كلها مظاهر تعيد لأذهان التونسيين أحداثاً درسوها في حصص التاريخ عن نكبة عاشتها بلادهم تلتها سنوات عانى فيها أجدادهم من هول المستعمر وظلمه وضحى فيها الأجداد بالأنفس في سبيل تحرير وطنهم واستقلاله.
حكومة التحالف الحاكم بقيادة السبسي تبدو للتونسيين بصدد التفريط في السيادة الوطنية والانتصار لمصالح القوى الأجنبية ودوائر رجال أعمال ولوبيات الفساد المحلي على حساب أحلامهم بعمل ومسكن ولائق ومعيشة كريمة ومستقبل لهم ولأبنائهم فهل ستكون معركة الاستقلال من نصيبهم؟ نذر عاصفة الحراك الاجتماعي المواطني تلوح في الأفق والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية ومقاومة الفساد هي نسائمها الأولى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.