من أين تكتسب الدول مشروعيتها؟

في عصرنا عادة ما يتم تناول سؤال مشروعية الدولة في إطار أدبيات التنوير، والتنوير -كرؤية كونية ظهرت في أوروبا في عصر النهضة- يمثل حالة قطيعة مع محددات النظر في الحياة والطبيعة والوجود التي كانت سائدة في العصور القديمة؛ حيث أصبحت مبادئ القانون الطبيعي هي البنية الأساسية للتفكير في شؤون المجتمع والاقتصاد والسياسة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/10 الساعة 03:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/10 الساعة 03:37 بتوقيت غرينتش

أدولف آيخمان، ضابط ألماني كان يعمل لدى الحكومة النازية؛ حيث كان يشرف على عمليات إرسال آلاف اليهود إلى معسكرات الإبادة، وبعد سقوط النازية تملص من الأسر، وتمكن من الهرب إلى الأرجنتين، لكن أجهزة مخابرات دولة إسرائيل -الوليدة حينها- تمكنت من رصده واختطافه ثم قامت بمحاكمته وإعدامه في مشهد درامي رصدت تفاصيله حنة آرندت (1906 – 1975) في كتابها (آيخمان في القدس).

قصة آيخمان أثارت إشكاليات كثيرة لدى المختصين في الفكر السياسي، فالدولة الإسرائيلية بمؤسساتها التشريعية وأنظمتها وقوانينها التي حُوكم بموجبها آيخمان لم تكن موجودة وقت حدوث جرائم إبادة اليهود في ألمانيا، وإجراءات القبض والادعاء والمحاكمة اشتملت على تجاوزات، فالرجل تم اختطافه من أرض أجنبية دون مراعاة للقوانين والأعراف الدولية، ثم حُوكم وأعدم دون منحه فرصة الدفاع عن نفسه، بالإضافة إلى أن الدولة الإسرائيلية قد حاكمته على "جرائم" لم تُرتكب على أرضها!

من جانب آخر، كان آيخمان مجرد موظف في هيكل سلطة لم يكن منظراً لأيديولوجيتها أو واضعاً لسياساتها، فهل الطابع السلبي لولائه الذي جعله لا يتساءل عن مدى أخلاقية قرارات رؤسائه يبرر وضعه تحت طائلة المسؤولية عن تجاوزات سلطة كانت -حينذاك- تتمتع بشرعية في نظر الغالبية الساحقة من أبناء شعبها؟ ما هو الحد الفاصل بين "الوطنية" و"الخيانة" الذي يميز بدوره بين موجبات الولاء وضرورات التمرد؟ التفكير في قصة آيخمان -في إطار الفلسفة السياسية- يقودنا بشكل لا مفر منه إلى جذر هذه التساؤلات جميعها وهو: من أين تكتسب الدولة الحديثة مشروعيتها؟

في عصرنا عادة ما يتم تناول سؤال مشروعية الدولة في إطار أدبيات التنوير، والتنوير -كرؤية كونية ظهرت في أوروبا في عصر النهضة- يمثل حالة قطيعة مع محددات النظر في الحياة والطبيعة والوجود التي كانت سائدة في العصور القديمة؛ حيث أصبحت مبادئ القانون الطبيعي هي البنية الأساسية للتفكير في شؤون المجتمع والاقتصاد والسياسة.

ويمكن حصر النظريات المتعلقة بمصدر مشروعية الدولة في ثلاث مدارس رئيسية هي: المدرسة الماركسية، والمدرسة النفعية، ومدرسة العقد الاجتماعي، بالإضافة إلى مدرستين هامشيتين هما: المدرسة المضادة للتنوير، والمدرسة الديمقراطية.

مشروعية الدولة لدى كارل ماركس ترتكز على حماية الدولة لمواطنيها من الاستغلال، التي تعتبر "المعادل الموضوعي للحرية" في أدبيات الفكر الماركسي، بينما يصر مفكرو المدرسة النفعية (مثل: جيرمي بنثام، وجون ستيوارت ميل) على أن انتهاج الدولة لسياسات وقوانين تسهم في تعظيم المنافع وتقليل الأضرار لأكبر عدد ممكن من مواطنيها هو ما يحقق المصلحة العامة التي تستمد منها الدولة مشروعيتها، وبالنسبة لمنظري العقد الاجتماعي فجوهر نظرياتهم يتلخص بالتوافق على عقد مفترض بين الحاكم والمحكوم للخروج من حالة الفطرة أو الطبيعة إلى حالة المجتمع أو الدولة.

كثير من المفكرين الفرنسيين يربط مشروعية العقد الاجتماعي برعاية الضمير الجمعي للأمة (بلغة مونتسكيو) أو تحقيق الإرادة العامة للشعب (بلغة روسو) التي لا تتوافق بالضرورة مع مصالح الأفراد، بينما يستمد هذا العقد مضامينه لدى المفكرين الإنجليز (مثل: جون لوك) من تعهد الدولة بحماية حق الفرد في الحياة والحرية والملكية مقابل الولاء الكامل للسلطة.

يشدد منظرو المدارس الفكرية المضادة للتنوير (جذور أفكارها تعود إلى الفيلسوف الألماني يوحنا جورج هامان) على أن حماية الدولة لتقاليد المجتمع المتوارثة -من عقائد وشرائع ومقدسات.. إلخ- هي بمثابة العقد الاجتماعي الذي يمنحها المشروعية، وينكرون إمكانية تنظيم الدولة وهندسة المجتمع وفق مبدأ القانون الطبيعي، ويرفضون أيضاً فكرة حماية الحريات الفردية كوسيلة لتحقيق مصلحة الدولة.

بالمقابل لا يزال الجدل قائماً بين مفكري المدرسة الديمقراطية حول الصيغة المثلى للتوفيق في وجهات النظر بين المدارس الفكرية الكبرى (الماركسية – النفعية – العقد الاجتماعي)، وبين اعتراضات المدارس الفكرية المضادة للتنوير على الأسس المفترضة لمشروعية الدولة في العصر الحديث.

على أرض الواقع، لم يسفر رفض الماركسيين للاستغلال ومناصرة البروليتاريا سوى عن طبقية الحكام ودولة الحديد والنار، والتأكيد على الإرادة العامة لم يمنع ظهور النازية والفاشية، ومعاداة التنوير فتح الباب على مصراعيه لصعود الحكومات الثيوقراطية، والفشل في تقليص الضرر الناتج عن التعارض بين سياسات تعظيم المنافع وحماية حقوق الأفراد أصاب مقولات المدرسة النفعية في مقتل، ومحاولات الديمقراطيين للتوفيق بين المتناقضات أسهمت في خلط الأوراق وإضعاف كفاءة المؤسسات ومنح هامشاً لاستمرار نظم الاستبداد والفساد.

ومن المفارقات أنه يوجد عبر العالم حكومات ديمقراطية تستمد مشروعيتها من عقد اجتماعي -يضبط عمل مؤسساتها ويحدد معالم العلاقة مع مواطنيها- لكنها ظلت عاجزة عن تحقيق تنمية مستدامة لشعوبها (مثلاً: ديمقراطية الهند لم تخلص شعبها من الفقر).

كما توجد حكومات مستبدة استعانت بالقوة العسكرية والقمع السياسي لإثبات مشروعيتها، لكنها نجحت في تحقيق مستويات عالية من الرفاه الاجتماعي (مثلاً: حكم العسكر سابقاً في كوريا الجنوبية واستبداد رئيس سنغافورة السابق لم يحل دون ازدهار هذين البلدين).

قوة الأفكار وتماسكها على الصعيد النظري لا يقتضي فاعليتها على الصعيد العملي، الفشل في تطبيق الأفكار القوية يحولها إلى "يوتوبيا" وممانعة الواقع للأفكار العقيمة يجعلها مجرد "أيديولوجيا"، وقد أثبتت التجارب استحالة قياس مشروعية الدول والحكومات والكيانات السياسية وفق معيار علمي لا خلاف عليه، فالحبل السري الذي يربط بين الفكر السياسي والفلسفة الأخلاقية جعل السياسة رهينة للجدل الفلسفي الشائك في نسبية الأخلاق، يقول المفكر الإنجليزي ديفيد هيوم: "لو حُسم النزاع في مفهوم الأخلاق لاختفى الجدل في مجال السياسة!".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد