في قرية صغيرة نائية لقصة افتراضية تحاول تبسيط واقع معقد ومتشابك، يوجد منبر ضخم سمته جمع الناس في كل أسبوع مرة.. يعتليه حكيم قارئ مرّ على أحكم كتاب عرفته البشرية حينها في الطبخ وتحديث المطبخ البشري مع بعض الحكم الأخرى المكتوبة في سير الأمم السابقة، وطبيعة البهارات، وأواني الطهي، وأنواع الفحم والأخشاب.
القرية هنا قبل العصر الحديث وفي كوكب آخر -حرصاً على رفع الإسقاطات المباشرة- ولمزيد من التقريب للواقع فهي قرية محاصرة ومعزولة، دمرتها حروب الاستعمار الطويلة، وتعمد الغزاة سلبها عقولها الزراعية المتخصصة، وهويتها الترابية الخصبة، وأضعفوا نظامها التعليمي الزراعي فصار استهلاكياً بامتياز بعد أن اعتاد في القديم السالف أن يكون منتجاً.
ولأن القرية عربية فقد تعلم الغزاة طريقة طبخ "الكبسة" وصاروا يبيعونها منتجاً جاهزاً يتم استيراده من الخارج للقرية جاهزاً، وسرقوا حبوب الهيل "أو الهال والحبهان"، وصارت تنتج في مزارع المدينة الغربية المستعمرة.
القرية لا تزرع الأرز منذ مدة، ولا تعرف اللحوم الطازجة، فلا يوجد مزارعون فيها، ولا تعرف البهارات، فلا تجار بقوا دون اغتيالات أو نفي واستغلال خارجي لمواهبهم، وليست تصنع أدوات الطبخ ولا تعرف الفحم.
لاحظ حكيم القرية -وهو رجل مخلص لا شك- أننا في كارثة استهلاكية لم نعد نستطيع حتى إنتاج طعامنا الشعبي فيها، في إشارة لحجم الاحتلال الثقافي والانهزام الذاتي الذي نعيشه.
جمع الخطيب الناس، أو هم اجتمعوا له كما اعتادوا في نهاية الأسبوع.. ألف رجل وطفل وامرأة.. اغتسلوا وتطيبوا، استعداداً للتغيير الحاصل في هذا الحدث الضخم، وتصفية لأذهانهم من أتعاب العمل الأسبوعي، وجلبوا في الطريق وصفاتهم الخاصة لتطوير القرية والذات، ورددوا تراتيل التبتل حفظاً دون فهم عميق.
ارتقى الحكيم المنبر، وبدأ التحدث: "أيها الناس، أما بعد: فإن الكبسة واجبٌ علينا إنتاجها"، وبدأ يهتف بضرورة إنتاج الكبسة وأهمية استرداد نهج الأسلاف في طبخها وإنتاجها لكل العالم.
وكان كل محتوى الخطاب التأكيد على أهمية الكبسة.. وواجب العودة لإنتاجها، وعن جمالية التعاون على طبخها في سير تاريخنا، وعن طعمها يوم كانت أيدينا تطبخها، وعن يوم كنا نطعم الكبسة للرجل الغربي!
عاد الناس لبيوتهم متحفزين أيما تحفز لإنتاج الكبسة.. يدفعهم هذا الشعور الروحاني والوطني لاسترداد تلك الأمجاد، لكنهم اصطدموا بعد كل ذاك الحماس، بواقع متخلف لم يعرفوا فيه طريقة طبخ الطبق الشعبي، ولا استجلاب مكوناته وأدواته.
عادوا للحكيم، متعلقين بروحه تعلق المتأمل بعودة الروح لولده في فراش الموت، وأعطوه الفرصة مرة بعد مرة لشرح الطريقة من خلال فهمه لكتاب القرية، أو إعطاء الوسائل المشروعة لتحقيق تلك النقلة، أو الدلالات على أماكن الشراء للمكونات وصنع الأدوات، عن المناهج العلمية التي تؤهلهم للتنقيب عن الفحم والغاز، وعن صناعة القيادات النظيفة التي لا تتآمر مع المستعمرين على حساب الوطن..
كان يعدهم كل مرة بأن يتحدث بإسهاب عن القصة، في الجمعة الأسبوعية القادمة.. وكانوا إذا اجتمعوا لم يزد على أن غيّر الحِكم المذكورة، وأتى بجديد التأكيدات على أهمية الكبسة والحس الوطني التعاوني، وأن في العودة لإنتاج "الكبسةِ الحل" كله!!
بدأت منذ تلك اللحظات اليائسة موجات ردة وكفر بمنهج المنبر وكتابه الذي يدعو له، واجهتها موجات تطرف مقابل ترى في نقد التراث نقداً للأصل الحكيم ولا تفرق بين الحكمة ذاتها وبين فهم الرجل الحكيم لها..!!
هل يلام الناس هنا إذ كفروا بـ"الإيمان" بأي فكرة صالحة عزيزة؟
أو صار إيمانهم خاوياً من معاني الحركة والحياة؟
أو خلطوا في تقديسهم للفكرة الواقعية بصاحبها المغيب في العموميات والتاريخ فقط؟
طبعاً.. فكل فرد في أمة حرة معني بالتفكير والتحري والبذل على قدر استطاعته..
لكن الملامة بحجم الكارثة والسماء التي أقلتها.. تقع على من فتن الناس في إيمانها بالفكرة ابتداءً؛ إذ لم يسقطها حية على أرض الواقع ولم يرسم خط تدرجها وخطوات بنائها، ولم يستعد ويشمر هو أولاً للتضحية والبذل والجهاد في سبيلها.
يريدها خطبة لا يعترض أحد عليها.. رغبة صادقة في الوحدة والتآخي؛ إذ لو بدأ بالتفاصيل واقتراحاته وإسقاطاته الواقعية لاعترض نفر من الناس وأيّد آخر.. ولبدأ حراك الفكرة والفكرة المضادة، والمبادرة والمقاومة، والتغيير والثبات.. وهكذا دواليك.
يبقى في العموم المُهدئ للتوتر.. ولو لم نبرح عاكفين على العجل مكاننا.. دون موسى هذه المرة..!!
أيها الحكيم في كل منبر اجتمع لك عليه الناس.. فرغ جزءاً من شباب القرية لدراسة الزراعة واسترجاع المحاصيل وإنتاجها على يد الجامعات الغربية، وأوقف لهم من عائدات القرية ما يضمن تدريسهم من خيرنا دون شراء الغرب لعقولهم.. ثم اجمع أغنياء القرية، وأمر أنجبهم أن يبدأ التجارة بعد سفر للبلاد القريبة وأن يستجلب قطيعاً من الماشية، وبذوراً للأرز والهيل والخضار.
أعمل الفقراء في الحقول بعد ذلك، وفرغ المثقفين للتنظير الحر في الجرائد والإعلام بما يستمر في تعبئة الناس لمشروعنا الوطني ونقده وتوجيهه.. ثم فرغ مجموعة للطبخ، وأخرى لصناعة الآنية، وثالثة لاستخراج الفحم.. وحث في تلك الفقرات الناس على العمل من خلال ذكر أحاديث الكتاب الحكيم والاستئناس بأفعال الأسلاف وأمجادهم..
أقولها بتجرد:
سيعترض الكثير،، ستنهال عليك الشتائم والاتهامات… ستكون مبتدعاً في الموروث الخاص بالقرية، لكنك تدفع وقتها بذاتك التشكيك عن المنهج والفكرة..
وإلا لماذا كنت الحكيم والعالم؟؟ ألست الشمعة التي تحترق لأجلنا ولأجل الفكرة؟
يومها بلسان الحال والتخطيط والعمل الجماعي، لا بلسان الشعار العائم: "الكبسة صارت الحل!".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.