ذات لقاءٍ أدبيّ سألته عن سرّ نبرة الحزن التي لا تكاد تخلو منها أغلب أعماله الأدبيّة، فأجاب بثقةٍ: الحزن جزء من ذاتي. ربّما كان الحزن طريقته لمواجهة قسوة العالم، أو دافعه للإبداع " فمن الجرح وحده يولد الأدب"، أحلام مستغانمي. أو ربما كانت طريقته في إثباتِ أن لا شيء يعمينا عن رؤية الجمال سوى عجز أرواحنا، وما دامت الأرواح حرّة، فوحدهم الذين يعمون عن الجمال هم العاجزون.
أصيب الطاهر بوصبع في طفولته المبكّرة، تحديداً في الثالثة من العمر، بمرض ضمور العضلات الشّوكي الذي يقضي تدريجيّاً على قدرة الإنسان على الحركة البدنيّة دون أن يكبحَ تطوّر المرض علاجٌ؛ إذ ما زال المرض يشكّل لغزاً بالنّسبة للأطباء والباحثين، فكان على صغر سنّة يواجه الحياة بكلّ ما أوتي من أمل؛ ليتعلّم دروسه الأولى في الحياة قبل المدرسة، غير أنّه لا يترددّ في وصف طفولته " بالبائسة" إذ كان يعيش في قريّة جبليّة وعرة المسالك تقع في عمق بلده الجزائر، وكان يضطر لقطع ثلاثة كيلومترات قبل الوصول إلى مدرسته، فكان الوصول للمدرسة بالإضافة لبعد المسافة، يشكل بحدّ ذاته تحدّياً له؛ لأنّه كان يعاني حتى في تلك الفترة المبكّرة من بعض الأعراض الأوليّة للمرض، فكان يمشي بصعوبة ما زاد مشاكله مع نظرته للحياة، التي أصبحت أكثر عمقاً عندما بلغ الرابعة عشرة من العمر حينما أجبره المرض على أن يكون مقعداً، وأصبح لا يستطيع أن يقوم على أموره الخاصة إلاّ بمساعدة الآخرين، ما جعله يشعر بالإحراج ويطوّر في نفسيّته شعوراً بالخجل كاد يعصف بإرادته وشجاعته.
وفي عزّ مراهقته، بدأ عنفوانه يُحتضر؛ ليحيا عنفوان المرض الذي كان يزيد شيئاً فشيئاً "حتى إنّني بدأت أغوص في دوّامة من اليأس والاستسلام لواقع كان يدفع بي إلى حافة الجنون"، غير أنّ المرض لم يتمكن من قمع ذلك الأمل المكافح في أقاصي الروح، فجعل الطاهر بوصبع القراءة والمطالعة والتكوين العلميّ وسيلته لمواجهة العالم هذه المرّة فتأثر بشخصيّتي أحمد ياسين، وعبّاس محمود العقاد، وقد ساعده هذا على استجماع شتات روحه، وانتشاله من دوّامة اليأس التي وقع فيها، ومواجهة مشكلة الخجل التي بدأ يتغلّب عليها تدريجيّاً، ما دفعه في نهاية المطاف إلى قطع بحور الطموح والتحدي ليصل أخيراً متجاوزاً كلّ المطبَّاتِ لنيل شهادة الليسانس في الحقوق وبعدها شهادة الكفاءة المهنيّة في المحاماة.
لكنّ تجربته الأدبيّة بدأت قبل هذا بكثير؛ فقد بدأ ينظم القصائد منذ شبابه الأوّل ليتحصل في عام 2001 على جائزة الانتفاضة بقصيدة "صحوة الغضب"، ثمّ جمع مختلف قصائده في ديوان شعريّ صدر له عام 2013 بعنوان مسافات البوح والاحتراق التي يُفضي بها عن مكنونات اختلجت صدره؛ ليبوح قلمه بدقات روحه، ويكشف عن الجمال القابع في الروح الذي لا يراه سوى قلّة من النّاس الذين لا يغريهم بريق المظاهر، فالديوان " تعبير عن رؤيتي للكتابة وفلسفتي في الحياة لأنّي أعتبره خلاصي وملاذي في هذا الهجير الممتد على كثير من الزّيف والأفن".
وعلى الرّغم من سطوة المرض وقسوته، فإنّ الطاهر بوصبع يؤكد أنّه كان مدرسته الأولى التي علّمته التأمّل والتبصّر؛ فعجزه عن الحركة جعله يُقدّر قيمة التوقف لبرهةٍ في ملكوت الله تعالى، وربما هذا ما ساهم بشكل كبير في تكوين شخصيّته الأدبيّة وحسّه الجماليّ المرهفِ، ويٌضيف أنّ التأمل يشمل أيضاً حياة النّاس وتجاربهم من أجل أخذ العبر ما ساعده على اتخاذ القرارات الصائبة في الحياة، ولعلّ هذا كان أحد العوامل التي جعلته يشقّ طريق الحياة بثقة في اختياراته، ما أدى إلى تشكّل نظرته الخاصة للحياة لتصبح له بصمته الخاصة في التفاعل مع العالم؛ ويتجلّى ذلك خاصة في قصائده الشّعريّة التي تنضوي على معانِ كثيرة، أهمّها الصبر الذي هو أحد الأمور التي يرى الطاهر بوصبع أنّه تعلّهما من مرضه؛ إذ "يساعد المرض الإنسان على الصبر الجميل النابع من الإيمان الرّاسخ بالقضاء والقدر خيره وشرّه، وأيّ صبر أعظم من صبر إنسان فقد أغلى ما لديه؛ الصحة والعافية!" الطاهر بوصبع.
على دروب الأدب والثقافة، يُسافر الطاهر بوصبع نحو اللاّمتناهي في المعنى حاملاً لواء الذين جعلوا من مرضهم عنواناً للإبداع، على الرّغم من أنّ النّقد العربيّ لم ينفتح بعد على هذه المجالات العميقة في الدّراسات النّقديّة، من خلال الكشف عن منبع الجمال في مثل تلك التجارب الشّعريّة التي تتميّز عن تجربة شخص عاديّ، ومحاولة فهم مظاهر الشعريّة وتفسير ظاهرة الإبداع في أعمالهم؛ فالأديب هنا في منتهى السّمو الرّوحي؛ إذ يمتطي صهوة الإبداع ليلتقط القصيدة المتمرّدة على قبضة الروح فيروّضها لتكون نصّاً أدبيّاً متكاملاً، ولا يتردّد الطاهر بوصبع في التأكيد على أنّ " النّص الأجمل والأعمق لم يُكتب بعد"؛ فالنّص الأمثل في نظره هو ذلك الذي يقبع على شفا كلمة من ناصية القلم، هو الأقرب من الروح والأبعد من الكلمات؛ لذلك يستمرّ الطاهر بوصبع في الكتابة الأدبيّة بحثاً عن المفقود في مجتمع يعجّ بالتناقضات الصارخة، محاولاً رسم ملامح العالم بشكل أجمل يجعل منه عالماً لا ينظر للاختلاف على أنّه نقص بل هو شكل من أشكال التنوّع في حين تمّت إدارته بشكل جيّد ووفّرتْ البيئة المناسبة لنموّه؛ فيحوّل الطاهر بوصبع المعاناة اليوميّة في ظلّ التّهميش وأحكام النّاس القاسية إلى ألحان سجيّة يعزفها قصيدة ترسو في شواطئ المعنى،"حينما تواجه البياض تتحرّر من قيود الزمكان وتصبح وظيفتك هي القبض على الغياب وإمساك تلك المشاعر العابرة التي يمكن ألا تعود "، الطاهر بوصبع.
إنّ تشاكل ثنائيتيّ الألم والتفاؤل في تناغم جميل يجعل التجربة الأدبيّة للطاهر بوصبع تتأرجح بين قطبين كبيرين يجعلانها تكتسي غموضاً معيّناً ومفارقة مثيرة تدفع بالقارئ إلى اكتشاف كنهها والغوص في أعماقها بحثاً عن حلّ لمشكلات الوجود الكبرى التي هي جزء من قلق الإنسان اليوميّ وتساؤلاته المستمرّة بحثاً عن ذاته وسط فوضى الأشياء وتصادم المتناقضات في أعماق روح الإنسان المعاصر المشتّتة الذي أصبح يحاول الجمع بين متناقضات ربما الأصل فيها أن تتجانس حتى في تناقضها؛ لتشكل معنًى متناسقاً يسمو بالإنسان إلى عوالم الطمأنينة والسّلام الداخليّ، ومن هذا المنطلق يجد الطاهر بوصبع كماله في عمله الأدبي فيرمي فيه بكل خلجات النفس ومكنوناتها في محاولة لإثبات ذاته التي تتلاحم مع النّص الذي يحملها إلى فضاءات التواصل الإنسانيّ متمرّداً على مجتمع يصرّ على تهميش الآخر الذي يُنظر إليه على أنّه عاجز بدنيّاً، دون النظر إلى جوهره الذي يعجّ بالحركة والحيويّة، وما النّصوص الأدبيّة التي ينسجها إلاّ دليل على أنّ الموت الحقيقيّ لا علاقة له بالأبدان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.