انتهينا في التدوينة السابقة من استعراض ميلاد الدولة العربية الحديثة من منظور تاريخي، باستعراض السياق التاريخي والسياسي الذي وُلدت فيه (ما بين فشل مشروع التحديث الذاتي وتشوه مشروع التحديث الاستعماري)، ثم صراعات ما قبل الميلاد بين التفاهمات الاستعمارية المتمثلة في اتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور من جهة، ومشروع الدولة العربية الكبرى الذي دارت حوله مراسلات الشريف حسين – السير هنري ماكمهون، وصولاً إلى لحظة الميلاد في أعقاب الحرب العالمية الأولى وما تلاها من صراع ومقاومة من أجل الاستقلال.
لكن يبقى لنا أن نشير إلى تأثير تعثر الميلاد هذا على "العيوب التكوينية" أو "التشوهات الخلقية" التي أثرت على مشروعية وفاعلية هذه الدولة، فكما ذكرنا سابقاً، قامت السلطات الاستعمارية "القابلة التي أولدت مجتمعاتنا السياسية الدولة الحديثة" بتطوير نظم الحكم والإدارة، وتطوير الأبنية الاجتماعية والاقتصادية (المؤسسات التعليمية والقضائية والبنوك المركزية ونظام العملة..)؛ لتولد الدولة الحديثة في هذه المنطقة، كما أنها اتبعت سياسات استعمارية لتثبيت هيمنتها، مثل إيجاد حلفاء محليين من كبار ملاك الأراضي والنخب المستغربة، ودعم الأقليات المذهبية والعرقية، وربط اقتصاديات الدول المستعمرة باقتصادياتها، ونتيحة لذلك فقد عانت الدولة العربية الحديثة -حتى بعد الاستقلال- من مشاكل عدة، أهمها:
أ. الانقسام السياسي الداخلي؛ حيث شُكلت الحكومات الأولى للاستقلال في الجمهوريات العربية من مجموعة من القوى المحافظة، تمثل النخب السياسية المدنية، والتي تدعم في الأقاليم من قِبل كبار ملاك الأراضي وكبار العائلات، وهي النخب التي كانت مرتبطة بطبيعة الحال بالمستعمر السابق، ولكن هذه النخب واجهت منافسة عنيفة من القوى السياسية القومية واليسارية الصاعدة، والتي دفعتها إلى التلاعب بالانتخابات للحفاظ على هيمنتها على السلطة، مما جعل هذه القوى المعارضة تلجأ إلى الجيوش الوطنية للإطاحة بهذه النظم، وهذا ما تم في سوريا عام 1949، ومصر 1952، والعراق 1958.
ب. تحدي بناء الهوية الوطنية الجديدة، والحصول على ولاء المواطنين للدولة، خصوصاً أن ترسيم حدود أغلب الدول العربية تم بالأساس على يد المستعمر، ودون أسس قومية أو مصلحية واضحة، كما أن الأيديولوجيات الإسلاموية والعروبية كانت تشن هجوماً شرساً ضد الهوية الوطنية القطرية، بل ومثلت بديلاً منافساً لها وتهديداً واضحاً لشرعيتها.
جـ. الوضع الاجتماعي المزري الذي يعاني منه أغلبية مواطني الدول المستقلة حديثاً، والمتمثل في الفقر والأمية والمرض، مع ضعف مصادر التمويل التي تحتاجها المشاريع القومية اللازمة للتصدي لهذه المشكلات، بالإضافة إلى مشكلات التفاوت الطبقي، والانقسامات المذهبية والعرقية التي أججتها سياسات التمييز الاستعمارية.
د. ضعف مؤسسات الحكم والإدارة في الدولة، خصوصاً بعض الفراغ الذي تركه المستعمر، كما حدث بعد انسحاب الموظفين الأجانب من مصر في أزمة السويس عام 1956، أو انسحاب المستوطنين الفرنسيين من دول المغرب العربي بعد الاستقلال.
هـ. استمرار النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي للقوى المستعمِرة على مستعمراتها السابقة، ففي أغلب الأحوال اشترطت القوى الاستعمارية قبل رحيلها ترتيبات عسكرية وسياسية واقتصادية تعد خرقاً للسيادة الوطنية وضمانه لاستمرار التبعية، وهو ما حدا ببعض المؤرخين إلى اعتبار أن رحيل المستعمر كان في واقع الأمر هو مجرد إعادة توزيع لميزان القوى بين المستعمر وشركائه المحليين لصالح القوى الأخيرة، وليس استقلالاً حقيقياً تاماً.
وأمام مثل هذه التحديات كانت استجابة الدولة العربية الحديثة سلطوية عنيفة، فقد شهدت سلسلة من الثورات/الانقلابات العسكرية، انقسمت بعدها النظم العربية ما بين ديكتاتوريات عسكرية (ذات نظام الحزب الواحد) وملكيات تقليدية استبدادية، كما شهدت مرحلة ما بعد الاستقلال ظاهرة هامة، هي تعاظم قوة الدولة، وتغولها على مجتمعاتها، وهو ما تمثل في مظاهر عدة مثل: تضخم جهازها البيروقراطي، وزيادة حجم أجهزتها الأمنية وقواتها المسلحة، بالإضافة إلى تنامي حجم ودور القطاع العام في الاقتصاد الوطني.
هذه الاستجابة، وإن أظهرت فاعلية أولية في مواجهة التحديات السابقة، لنشهد طوال عقدي الخمسينات والستينيات دولة عربية فتية، إلا أنه – على المدى الطويل- كانت النتائج كارثية؛ إذ أدت الديكتاتورية إلى أزمة مزدوجة خطيرة، فمن جهة أفسدت الدولة باحتكار السلطة واستشراء الفساد وتكون شلل المصالح وتحييد الكفاءات في غياب الشفافية والمسؤولية والمحاسبة، ومن جهة أخرى أضعفت المجتمع وتكويناته، سواء التقليدية (القبيلة والطائفة والمجموعات الصوفية والدينية..)، أو الحداثية (الحزب والنقابات العمالية والمهنية والجمعيات الأهلية)، وزادت من اعتماديته على الدولة؛ لذلك عندما ضعفت هذه الدولة منذ نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة تحت وطأة عدة عوامل (ذاتية وخارجية – بنيوية ووظيفية)، ضربت الفوضى مجتمعاتنا السياسية بشدة، وظهرت التشوهات القديمة التي كانت تغطيها الديكتاتورية، والتي زعمت الدولة الحديثة أنها تمكنت من التغلب عليها بالفعل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.