لماذا قتلتم سوريا؟

إن الحرية مطلب كل الشعوب، وهي مربط الفرس في سائر القضايا، وكعكة كل الأعياد، هي الهواء النقي والفسحة البيضاء التي لا يمكن أن يكون لحياة الناس معنى من دونها؛ لهذا كان من حق السوريين كغيرهم حينما قرع الحراس أجراس الربيع القادم من تونس الخضراء أن يرفعوا أصواتهم المبحوحة في نداء كان اسمه العريض "الشعب يريد حريته"

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/09 الساعة 04:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/09 الساعة 04:04 بتوقيت غرينتش

كيف أبدأ الحديث عن وطن تقاذفته رياح الأطماع الآثمة وشهوات الغزاة من كل فج عميق؟! كيف للقلم أن ينتصف من الجناة الذين أحرقوا وردة الأرض وريحانتها بقدّاحات حقدهم في غفلة من الإنصاف ومع سابق إصرار وشر؟!. ربما لن أدع للكلمات متسعاً كافياً لتفصح عما يعتري الحبر من ألم، فالجرح أكبر من العبارات، ولا شيء إلا الأسود والأحمر، ما أراه طاغياً على لوحة سوريا اليوم، إنها صورة الشام الحزين بكل ما يحمله الاسم من مفردات الحب والحرب والحسرة.

لقد قتلوا الشام عمداً، سفكوا دمها كله، وأحرقوا ثوب حُسنها، ثم رموا بأبنائها الخائفين في لجج المنافي وعلى بوابات المدن، وهاهم يتسولون الآن أمام بيوت لا يحتفي أهلها بالغرباء، ولا تستفز قلوب أصحابها نظراتُ طفل لم تعرف قدماه الصغيرتان طريق المدرسة، ولم يُكتب لعمره أن يعانق نقاء الياسمين ودماثة المطر حين ينزل خفيفاً على خد عابر في شتاء دمشق، كم هي قاسية هذه التفاصيل! وكم وهو مُرٌّ هذا النحيب! وكم هي عاهرة سافلة تلك السياسة الحقيرة التي حكمت على سوريا بمقصلة الدّمار!

من قتل سوريا؟ حُقّ لنا أن نعرف من هو هذا الجاني اللئيم الذي كتب على عروس الشرق أن تموت ناقصة عُمْرٍ قبل أوانها، حاملاً في ربيعه الجاف وعود دونكيشوت للطواحين ومواسم هولاكو التي لا تنتهي، ربيعٌ أحمق لا يحتفي بالزهور ولا يشي بالغناء، إنه يزحف على حدائقنا ربوةً ربوةً، ويغني على أسماع طيورها سيمفونية الشرّ والظلام، منذ متى كان الخريف ربيعاً في أبجديات العرب؟

الموت الذي يعرفنا ونعرفه هو مثلنا يتحدث نفس اللغة، ويتقاسم معنا طعم قهوتنا العربية المر وخبزنا المالح، لم يكن ممكنا أن يتسلل هذا الموت هكذا لسهولنا اليابسة لولا أنه وجد فيها وطناً يحتضنه، فالدمار يعرف أهله، والبندقية لا تُطرب عصافير الآخرين، إنها لحننا المميز الذي لا تكتمل الحفلات في أعراسنا دونه، ولقد صنعنا موتنا بأيدينا هذه، وهي الملطخة بالدم والأعذار والكلام الخاطئ عن الحرب والسلم منذ آلاف السنين، إنه جهلنا الذي لم نشأ يوماً أن نعترف به، فكيف ينتصر على الجهل من يخشى مواجهته؟

لقد قتلوكِ يا سوريا، ودفنوا أسرارهم في ترابك الطاهر مثلما يدفن الخائفون تواريخهم المفبركة دفعة واحدة في سلة الزمن المهمل، أو مثلما يئد الأعراب بناتهم خوفاً من العار، وهم لا يدركون أن العار كله ماثل للعيان في نجاسة أصابعهم وما اقترفته، أخبروهم أيها الناس أن هناك مدينة جميلة كان اسمها حلب دُكّت دكّاً بالطائرات والمتفجرات، واغتصبها الانتحاريون من كل شذاذ الآفاق في الدنيا، وهي التي لم تجنب يوماً إلا فتنة الصّبايا الحالمات ورائحة الخبز وأصوات بلابل يطربون بقدودهم الحلبية أسماع العالم، أخبروهم أن مروحة نزار -دمشق- لا تزال تتلقى الطعنات الواحدة تلو الأخرى من هؤلاء القتلة، وهي التي لم تهدهم طوال مُقامها بينهم إلا بياض الياسمين وحديثاً هامساً عن الحب والحرية.

وحتى لا يكون حديثي كله هلامياً ضائعاً بين العبارات الأدبية الزرقاء، وحتى أكون شفافاً بالقدر الكافي لأفصح عن باطن الكلمات، فإن ما جرى بسوريا أيها العالم المسعور -على حد تعبير شاعر مكلوم آخر- هو جريمة منظمة بكل المقاييس قام بها أعداء الجمال من تجار الموت والدين وسماسرة الدم ممن طعنوا شعباً في الظهر وأداروا نخب كؤوسهم على جماجم السوريين خدمةً لمصالح يعرفونها ونجهلها، لكننا نعرف جيداً لمصلحة مَن هي ومَن رسم خطتها بعناية؛ ليبقى للأقزام حيز التنفيذ، وذاك دأب الخونة على مر العصور.

إن الحرية مطلب كل الشعوب، وهي مربط الفرس في سائر القضايا، وكعكة كل الأعياد، هي الهواء النقي والفسحة البيضاء التي لا يمكن أن يكون لحياة الناس معنى من دونها؛ لهذا كان من حق السوريين كغيرهم حينما قرع الحراس أجراس الربيع القادم من تونس الخضراء أن يرفعوا أصواتهم المبحوحة في نداء كان اسمه العريض "الشعب يريد حريته"، فهل كان هذا المطلب فادحاً في رعونته إلى حدّ أن يكلف السوريين كل هذه المحرقة المنكرة؟

لا.. لا يبدو لي أن الأمر كذلك، ولا أعتقد أن المسألة تقف عند هذا الحاجز من التفسير، بل إن في الأمر مؤامرةً دُبّرت بليل وكان لزاماً على السوريين دون غيرهم أن يدفعوا فاتورتها من دمائهم، فلكل طوفان زخة تفتتح كرنفال الماء، ويبدو أن حرية السوريين كانت هي القطرة التي أفاضت كأس هذا الدمار.

كُلّي يقين أنه كان بإمكان السوريين أن ينجزوا حراكهم بأنفسهم دون أن يقعوا بالضرورة في بحيرة الدم هذه؛ لأن شعباً مبدعاً أهدى للعالم كوكبة من العباقرة على مر العصور ليس عاجزاً عن نزع شوكه بيده، بل هو قادر على صنع التاريخ ورسم ملامح مستقبل أجمل، لكن لو أنه تُرِك لنفسه وعلى سجيّة أمره، وهذا ما لم يكن على أية حال.

أخبروني أيها القتلة من مدائن الشرق والغرب، لماذا تدخلتم في اللعبة؟ وكيف سمحت لكم أعذاركم أن تشاركوا في مأدبة الدم السوري الجارحة؟ كيف تاجرت إذاعاتكم بصرخات الثكالى؟ وكيف استعذبتم أنّات المعذبين؟ كيف سوقتُم للعالم قذارة مشهدنا البائس وبقيتم تغرسون السيف في خاصرة الأبرياء، ثم وبكل بساطة حين شردتم ملايين البشر أقفلتم دونهم الأبواب، وتركتم لهم هذا العراء ودروب البحر والبر نحو مجاهل أراض لم تكن في يوم من الأيام عمقاً لهم ولا نافذة لأحلامهم، إن التاريخ سيسجل في صفحاته المظلمة رجس أعمالكم وصنيعكم الشنيع هذا وسيكتب عنكم في معاجم الباحثين والمؤخرين كلماتٍ كالجمر علّها تفي بوصف خيانتكم وعهركم في حق الشام وأهلها.

ربما وصلت بعض أجزاء الفكرة، وأترك لذكاء بديهتكم الفرصة كي تكتشف أسرار الكلام، ولي رسالة إلى ضمائر مما زال يملك منكم بقايا ضمير يُنصت للصرخات ويفهم جسارة الحرقة في أعماق المعذبين، دعوا أحقادكم جانباً ولا تصدّروا إلى بلداننا قاذورات تاريخ مُلوث بالثأر، انتحبوا والطموا وانفجروا بعيداً، افعلوا ما تريدون لكن بعيداً عنا وعن أحلامنا، لا تحولوا أحلام الشعوب إلى كوابيس، ورجاءً دعوا لسوريا حطامها وارحلوا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد