جاءت من الموصل بالأحزمة الناسفة، ثم قامت بتوزيعها على مجموعات إرهابية لتفجير معالم بارزة في أنحاء أوروبا، لحسن الحظ أنّ هذا لم يحدث، فما جرى هو العكس تماماً.
ما جرى تحديداً أنّ زها محمد حديد جاءت من الموصل بمخططات معمارية مبدعة، ثم قامت بتوزيعها على فرق هندسية عالية الكفاءة، وهكذا شيّدت لأوروبا عدداً هائلاً من المباني والصروح الرائعة.
فقدت أوروبا، بل العالم أجمع، هذه المعمارية الفريدة، ولكنها باقية بعد أن نحتت اسمها في قرابة ألف عمل ومشروع، بدأت زها حديد، وهي العراقية العربية المسلمة، مسيرتها المهنية قبل ثلاثة عقود، ثم حازت من مقرها في لندن الاعتراف العالمي بمكانتها المتفردة في رواق كبار المعماريين الرجال، وحصدت أرفع الجوائز.
ستبقى زها حديد قادرة على إثارة التساؤلات بعد رحيلها، فماذا لو أنها اشتغلت بالتدمير مثلاً، وحصلت على وصفات التفجير من شبكة الإنترنت؟ لا مشقة في الإجابة، فمثل ذلك سيكون سبباً كافياً لإثارة مراجعات نقدية متشنِّجة عن المسلمين ودينهم وثقافتهم، كان على المسلمين في أوروبا في هذه الحالة أن يتنصّلوا منها، وأن يشعر بعضهم بأنّ عليهم الاعتذار عن أفعال لم يقترفوها.
لكنّ زها حديد انشغلت بالتعمير، بل منحت أوروبا شحنة مدنية إبداعية مذهلة عبر عشرات العواصم والمدن، وتم تبعاً لذلك عزل النجاح الذي أحرزته هذه المعمارية العربية المسلمة في نطاقها الفردي، دون أن يتعدّاها إلى غيرها، إنه المسلك الاعتيادي الذي يعزل الخدمات الجليلة التي تسديها صفوة مختارة عن الصورة الإجمالية المخصصة لذلك (الآخر) الكريه أو الخصم، ولو تمّ احتساب زها حديد أو غيرها من الرواد والمبدعين على مشهد مسلمي أوروبا، لأدّى ذلك إلى خدش الرواية السلبية المفتعلة عنهم أو نقضها من أساسها، وهناك، على أي حال، من يطيب لهم أن يختزلوا المسلمين أو العرب في أوروبا في صورة التهديد الماحق، وقد يستسلمون لدعاية "داعش" بالكامل، وهي تحاول اختطاف الإسلام.
هكذا تمّ طوال ثلاثة عقود من أعمال التشييد المعماري النشطة إخراج زها حديد من السياق الذهني المُتخيّل للمسلمين والعرب في القارة الأوروبية، أي من القالب المخصّص لأولئك المتهمين في بعض الروايات الإعلامية والثقافية والسياسية الشائعة بأنهم عوامل تقويض لأوروبا المُفترضة.
لكنّ هذه العربية المسلمة قد أجابت ببراعة عن أسئلة اتهامية تقليدية كان يوجّهها بعض المتعصبين في أوروبا للمسلمين فيها: وماذا قدّمتم لأوروبا؟ وماذا أسديتم لثقافتها وفنونها؟ فهل يملك أحدهم أن يوجِّه أسئلة كهذه اليوم، بعد كل هذه الصروح المرئية التي شيّدتها زها حديد فوق الأرض؟ نعم يملك هؤلاء أن يتمادوا في طرح أسئلة متحيِّزة؛ لأن منطق التفرقة والغطرسة والعنصرية لن يرى سوى ما يريد هو رؤيته، والحقيقة أنّ زها حديد ليست وحدها من بين مسلمي أوروبا من قدّمت خدمات جليلة للبلدان والمجتمعات الأوروبية في الحقول المتعددة، وإن لم يتم الاعتراف بهذه الخدمات جميعاً بعد.
مرة أخرى، لنتخيّل فقط لو أنّ زها حديد قد جاءت من الموصل بحزام ناسف، كان منحى الاتهامات والشكوك والمرافعات سيمتد إلى دينها وثقافتها وأمتها، مع إخضاع أعمالها لتأويل ديني وثقافي انتقائي نجا منه حتى عتاة الإرهاب والقتل الجماعي في أوروبا ذاتها، مثل النرويجي أندرس بريفيك الذي اقترف مذابح أوسلو سنة 2011 أو الطيار الألماني أندرياس لوبيتز الذي هوى بطائرته سنة 2015 فوق جبال فرنسا وفتك بالركاب جميعاً.
هكذا يسري الانطباع السلبي على منتسبي الأقليات التي تحفّها نظرة قلق أو ارتياب، بينما يبقى الانطباع الإيجابي محصوراً في حالات مفردة غير متعدية إلى غيرها، ومن المألوف أن تمضي المعادلة بشكل معاكس في تصوّر مجتمع (الأغلبية) لذاته، إذ تتم قراءة الجرائم والفظائع ضمن تأويلات فردية لا تكاد تتعدّى مقترفيها.
تركت لنا زها حديد تجربة ثرية متعددة الأبعاد، ستعيد الأجيال اكتشافها ودراسة أعمالها والاختلاف في تأويلها، وما هو مؤكد أنّ "ملكة المنحنيات" قد نجحت في تجسيد الترابط بين الشرق والغرب، خلافاً لأوهام القطيعة بين الثقافات أو أحلام الصدام بين الحضارات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.