"وتظنّه ممّا تزمجر نفسُه .. عنها لشدّة غيظه مشغولا".
تراهُ يناقش، ويغضب، ويصيح، وينبّه، ويلوم.. مِكَرّ مِفرِّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً… كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ.
يتّهم، على طريقة الفند الزمّاني، "بضربٍ فيه توهينٌ وتخضيعٌ وإقرانُ".
خطر الإسلام!! تخلّف المسلمين!! لازمة لا يعرف غيرها. يكرّرها بين أكذوبة وأخرى. يُقفّي بها أبيات العنصرية، وينظم على وزنها قصائد الكراهية.
إنّها موضة مثقّفي الإسلاموفوبيا التي تجتاحُ الغربَ بشاشاتهِ، وإذاعاتهِ، وصحفهِ، وكتبهِ، ومنابرهِ، وجامعاتهِ، ومعاهده.ِ
مثقّفو الغفلة هؤلاء – وكثيرون منهم من أصول عربيّة – كانوا، حتّى وقت قريب، مغمورين وهامشيّين، ولكن سرعان ما أخذوا يتكاثرون كالطفيليات على ندوب صراع الحضارات، مستفيدين من أضواء النجومية التي تسلّط عليهم.
ويَتَوهّم هذا النوع من المثقّفين بأنّه يمتلك شجاعة فكرية قلّ نظيرها، تجعلهم غير آبهين بأن يُتّهموا بالوقوع في الإسلاموفوبيا، وتدفعهم إلى المواظبة على ما يدّعون بأنّه قول للحقائق كما هي. إلّا أنّ واقع الأمر مختلف تمام الاختلاف.
فلتنميق كراهيتهم، وبثّ أضاليلهم، يعتمد مثقّفو الإسلاموفوبيا بشكل أساسي، وبكثير من الدهاء التحويري وسوء النيّة، على ثلاث خدع فكريّة:
1- خدعة لإضفاء الشرعية العلمية على خطاب الكراهية
2- خدعة لتزيين شكل خطاب الكراهية
3- خدعة لتبرير مضمون خطاب الكراهية
1- يعتبرون أنّ أسباب الإرهاب دينية:
يرفض هؤلاء المثقّفون فكرة أنّ الإرهاب الإسلاموي هو وليد ظروف جيوسياسية أو اجتماعيّة (سوسيولوجية) معيّنة، ويعتبرون بشكل نمطي أنّ الإرهاب مشكلة بنيويّة في الاسلام، تولد من رحم نصوصه.
فبعد كلّ عملية إرهابية، يقومون فورا بالتصويب على الآيات التي تتناول موضوع الجهاد، فيقومون بإخراجها من سياقها التاريخي، دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء مراجعة أسباب النزول أو العودة إلى كتب التفسير.
وبعد ذلك، يصبح من السهل عليهم تعميم تهمة الإرهاب على كافّة المسلمين. فالمسلم، بنظر مثقّفي الاسلاموفوبيا، مذنب حتّى إثبات العكس، وهو مطالب دون غيره، عند كلّ عمليّة إرهابية جديدة، بالتبرّؤ علنا منها، وإدانة مرتكبيها، والتظاهر ضدّ الإرهاب، وكأنّه يصبح، بمجرّد كونه مسلما، شريكا للإرهابيّين.
أمّا محاولة استبيان الأسباب الحقيقية، والدوافع الفعلية، التي تقف وراء الإرهاب – من أجل استنباط حلول ناجعة وجذرية لهذه الآفة- فهي بنظرهم عمليّة فكرية مشبوهة، لأنّهم يصوّرونها على أنّها نوع من التبرير (إيجاد أعذار) للإرهاب، على حدّ قول رئيس الحكومة الفرنسي مانويل فالس مثلا.
وهنا يكمن الخطأ الفادح في منهجيّتهم التحليلية، إذ أنّهم لا يأخذون بعين الاعتبار العوامل الأساسية التي تغذّي الارهاب، أكانت هذه العوامل جيوسياسية: كاحتلال العراق في 2003 وما استتبعه من سقوط للموازين الإقليمية والطائفية في الشرق الأوسط، أو النتائج الكارثية لما يسمّى بالحرب على الإرهاب، أو دعم الأنظمة القمعية والانقلابات العسكرية قبل الربيع العربي وبعده، أو الظلم الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني من جرّاء أبشع ممارسات احتلال يستمرّ منذ عشرات السنين؛ أو عوامل إجتماعيّة: كالتهميش الذي تعاني منه الضواحي التي تسكن فيها أكثرية مسلمة، كما هو حاصل في كثير من البلدان الغربية كفرنسا مثلا، مع ما يرافق ذلك من فقر وبطالة وتمييز عنصري.
2- يجدّدون في شكل الخطاب العنصري:
إذ ينتقلون من عنصرية بيولوجية فاضحة، كانت تحصل على أساس الانتماء العرقي، إلى عنصرية ثقافية منمّقة، تحصل الآن على أساس الانتماء الديني.
فمثلا، يصوّب مثقّفو الإسلاموفوبيا سهامهم نحو الحجاب، ووضع المرأة المسلمة، ويدّعون إرادة "تحريرها" بقيمهم. ولكن لا يقومون بذلك حبّا بالمرأة المسلمة، بقدر ما يفعلونه تعبيرا عن كراهية وعنصرية ضدّ الشعوب المسلمة، إذ أنّهم يستغلّون قضيّة الحجاب بشكل أساسي لاتّهام المجتمعات المسلمة – بطريقة تعميمية تعسّفيّة – بالتخلّف والرجعية، وقمع المرأة وسلبها حقوقها، وعدم القدرة على ركب موجة الحداثة.
ولعلّ التصريحات الأخيرة لوزيرة حقوق المرأة في فرنسا، التي اعتبرت أنّ الحجاب من مظاهر العبودية، أو تصريحات رئيس الحكومة الفرنسية الذي يريد الآن أن يمنع الحجاب داخل الجامعات الرسمية، تشكّل خير دعم لخطاب مثقّفي الاسلاموفوبيا.
طبعا، يعاني وضع المرأة من مشاكل جمّة في كثير من المجتمعات المسلمة، خصوصا في ظلّ بعض الأنظمة الثيوقراطيّة. ولكن فات مثقّفي الغفلة هؤلاء أنّ المرأة المسلمة ليست بحاجة لهم كي "تتحرّر" -إن صحّ التعبير- ، أو كي تعبّر عن قناعتها.
فهدى شعراوي في مصر، أو عنبرة سلام الخالدي في لبنان، خلعتا الحجاب تعبيرا عن قناعة شخصيّة، كما أنّ الفتيات والنساء اللواتي يرتدينه، لا سيّما في الغرب، غالبا ما يعبّرن عن قناعة مقابلة، وهذا الاختلاف الايجابي دليل غنى وتنوّع صحّي داخل الإسلام.
3- يُسَخِّرون العلمانيّة لصراع الهويّات:
في الأصل، اعتُمِد مبدأ فصل الدين عن الدولة في الغرب للجمع بين مختلف مكوّنات المجتمع، لا للتفريق بينها.
ولكن أخذ مثقّفو الإسلاموفوبيا مؤخّرا بتحوير العلمانية، إذ ربطوها بمفهوم الهوية القومية بمعناه المغلق، فحوّلوها بذلك من مفهوم تحرّري يتيح تنظيم الاختلاف والعيش المشترك ضمن المجتمع الواحد، إلى مفهوم فئوي إقصائي يشكّل رأس حربة موجّهةً حصراً ضدّ المسلمين، وهم أصحاب هوية أقلية في المجتمعات الغربية.
وما يلفت الانتباه مثلا هو أنّ أحزاب اليمين المتطرّف، المعروفة بعدائها التاريخي لنظام الجمهورية (لا سيّما في فرنسا)، أضحت اليوم من أعتى المدافعين عن مبادئ الجمهورية، وأوّلها العلمانيّة، ولكن بنسختها المحوّرة والإقصائية.
أمّا القالب النظري لصراع الهويّات، فتعبّر عنه أكذوبة "الاستبدال الكبير" التي يروّج لها مثقّفو الاسلاموفوبيا دون أدنى دليل علمي، والتي تحذّر من استبدال الشعوب الأوروبية بشعوب مسلمة فتيّة من المهاجرين أو من اللاجئين.
بالمحصّلة، هي موضة هزليّة كئيبة، انتشرت كالنار في الهشيم في الغرب، حتّى وصلت إلى العالم العربي، حيث أخذ بعض مدّعي الاختصاص والعلم باصطناع عنتريّات نقدية دونكيشوتيّة، مضحكة مبكية، هي أبعد ما تكون عن النقد العلمي الحرّ الموضوعي.
في الحقيقة، جلّ ما يقومون به لا يتعدّى -في كثير من الأحيان- شيطنة أقرانهم من عموم العرب والمسلمين، آملين بنيل شهرة من هنا، أو تميّز نخبوي من هناك.
ولكنّها موضة، ولا بدّ أن تزول، ولو بعد سنوات عجاف، لا سيّما أنّ أصواتا، خصوصا من ذوي الاختصاص، بدأت تتعالى في الغرب والشرق لفضح الأساليب الملتوية لهذه الموضة، وللتحذير من مخاطرها.
أهمّ المصادر والمراجع:
BANCEL (Nicolas), BLANCHARD (Pascal), BOUBEKER (Ahmed), Le grand repli, La Découverte, 2015
BAUBEROT (Jean), La laïcité falsifiée, La Découverte, 2014
LUIZARD (Pierre- Jean), Le piège Daech, La Découverte, 2015
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
NABLI (Béligh), La république identitaire- Ordre et désordre français, Cerf, 2016