أوراق بنما، فضيحة كونية دوت عالياً في سماء العالم، من أقصاه إلى أقصاه. أماطت نقاب الرماد عن جمر المال الملتهب في محراب جزر العذراء. وسلطت الضوء على المخزن المظلم للمال المتخفي خلسة عن أعين الضرائب. فهل نحن أمام غلطة شاطر، أم سخرية القدر؟!
إنها ليست قضية تهرب ضريبي عادية، ولا فضيحة رجل واحد، غافل القانون باستدارة ماكرة. بل هي قضية عالم رأس مالي جشع، نخر سوس المال أعمدة الأخلاق فيه. فسقط المعبد على كهنته واشتعلت النار في أزيد من 11 مليون وثيقة. وعرى لهبها جسد التهرب من القانون ودفع الضرائب.
لا جدال هنا أن للفضيحة سيفين، أحدهما به الرحمة والثاني من قبله العذاب. الأول برهن للعالم أن الإعلام سلطة رابعة لا ترحم، وكلما وأد دورها رف من رماده كطائر الفينيق. إذ دخل منطقة محرمة، ومزق الحجاب الحاجب لمرآة عكست شيزوفرينا شخصيات عالمية. تأمر بالطهارة ولا تلمس الماء؛ كديفيد كاميرون، الذي ألهب عقول البريطانيين بدروس الوعظ الوطنية، في صورة داعية يدعو إلى التقوى بدفع الضرائب للدولة. ووالده من سكان فردوس المال.
والسيف الثاني بتر رؤوس الأموال التي كانت تختبئ كالنعام في رمال جزر المال، وبرهن للحاكم والمحكوم، للظالم والمظلوم، للغني والفقير، للسياسي والرياضي، للمدني والعسكري، أن المتستر بالأيام، عريان لا محالة.
وقع العالم في حيص بيص، حشرجة وتلعثم هنا وهناك. صمت مطبق وتحقيقات معربدة، والعالم يتأرجح بين سحر المال وقوة السلطان. فهل ستكون فضيحة بنما، مجرد حفيف ورق عابر، أم دمدمة رعد تهدد الطابوهات؟
بالجزائر سحقت أحذية العسكر الخشنة حدقة القلم، وبدأت في دعاية واهية "نظرية المؤامرة" للتملص من قيود الفضيحة، على أساس أوهن من بيت العنكبوت، مفاده أنها مؤامرة ضد بلد المليون شهيد.
تونس بفعل فاعل، مأمور أو متطوع، تم اختراق موقع جريدة التي نشرت ما في لب الوثائق البانامية، والحكومة تفتح تحقيقاً حول الفضيحة المالية، وتبرهن أن لا أحد فوق قانون دولة تصالحت مع الديمقراطية بعد ربيع دامٍ.
وبين إعلام بشار والخليج، لعبة الغميضة. يختفي هذا ليظهر ذلك، حيث كل منهما وجد ضالته في فضح الآخر، بينما يطوق الصمت ما يتعلق بفضائحهم الداخلية.
الإعلام الخليجي يتحدث عن استغلال أسرة الأسد لسلطته، لصالح مآربها الاقتصادية. ضاربة المثل بالعميد حافظ مخلوف وشقيقه رامي مخلوف، أبناء خال بشار الأسد.
بينما الإعلام السوري كرس قواه للثأر من سادة الخليج، كحمد بن جاسم بن جابر آل ثان رئيس وزراء قطر سنة 2007، حمد بن خليفة آل ثان أمير قطر السابق الذي حكم ما بين 1995 و2013، والملك الحالي للسعودية سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وولي عهده محمد بن نايف بن عبد العزيز آل سعود، أمير أبو ظبي خليفة بن زايد بن سلطان آل نهيان ورئيس الإمارات العربية المتحدة.
المغرب كذلك لم يسلم من ريح بنما التي عصفت بأوراق رجال أعمال، ومشاهير ورياضيين، واثني عشر قائد دولة، للعرب حصة الأسد منهم، بسبعة قادة.
ليزف الخبر للمغرب، بعد أن تناقله بريد الإعلام في كل مدينة، وخلف زوابع بكل شبر، قد تتلوها عقوبات وقد تمر مرور الكرام، برداً وسلاماً. فكان اسم كاتب الملك، منير الماجيدي، أيضاً مكتوباً في الوثائق المليونية، ومنيراً للمغرب ضوءه هناك، وماجد كذلك صيته ذائع.
ومن ضباب الفضيحة المالية، خرج سكرتير الملك ومحامي القصر، بتصريح أفاد فيه أن أعمال الشركات قانونية. وأن منير الماجيدي: (رئيس شركة "سايغر" الشركة القابضة لجميع أسهم الأسرة المالكة في شركات المناجم والأراضي الزراعية وشركات الاتصالات. كما يرأس منظمة ثقافية تقوم بتنظيم مهرجان موازين) كل أعماله مسجلة. وما تسريبات بنما سوى جنازة كبيرة لفأر ميت.
فيما أكد وزير العدل جهله بالموضوع، ومعرفته الضئيلة بمساطر تنظيم الضرائب وعقوبات التهرب عن أدائها. الأمر الذي خلف في الوسط عدة علامات استفهام، معلقة على رأس الرأي العام. كيف لا يعلم معالي الوزير بالأمر، وقد اشتعل كالنار في الهشيم بكل ربوع العالم؟ وكيف تكون معرفة وزير العدل قليلة بمساطر لوزارته مسؤولية تطبيقها؟ وهل سكرتير الملك طابو مسكوت عنه في مملكة الاستثناءات؟ أم أن حكومة البلاد قوية كالفولاذ على الشعب، ضعيفة حد الوهن أمام محيط الملك؟ كل هذا وذلك وضع الحكومة في مأزق لا تحسد عليه أمام الشعب. مما استدعى خروج مستشار الوزير، جواد غسال، كي يغسل وجه الوزارة مصرحاً: أن تصريح الوزير شخصي، ولا يعبر عن وزارة العدل.
بينما يطوق الصمت بجدران صلبة هنا وهناك في المغرب، كأنه يقول إن الأيام كفيلة بطي هذه الصفحة، من عقل الشعب الذي ينسى دائماً. تبقى العدالة بين فكي كماشة المال والسلطان، ونبقى جميعاً ننتظر أين سيرسو يخت البوغاز1 بأوراق بنما.
هذا إذا لم يطالب الشعب بتحقيق، يقطع الشك باليقين، بمعنى أن يعبر السور الذي يفصل بينه وبين العالم المعاصر، وينخرط في مشروع التنوير والحداثة الذي يخشى الجميع دفع ثمنه، الثمن هنا ليس دماً، بل كسر القالب الحجري الذي تحنطت في جوفه ثقافتنا واجتماعنا ومفاهيمنا.
بعبارة أخرى لا جدوى من التفكير باستبدال نظام سياسي بآخر، أو شخص بآخر، فخلف كل قيصر، قيصر جديد، لأن النظام المعرفي الاجتماعي السائد فينا، سيعيد إنتاج طبقة سياسية داخل نفس القالب. فليس ثمة مشروعية حقيقية للمال وللسياسة والأحزاب تصلح لمشروع يبعثنا من مرقدنا. نحتاج إلى نفخة الصور وقيامة تبدأ بثورة ثقافية فاتحتها إصلاح جذري في عقولنا كي نتعلم محاسبة من أخطأ وتقدير من أصاب، فلا تغيير ذا جدوى يرتجى إذا اقتصر الأمر على السطح السياسي ولم يحفر في البنى المنتجة له.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.