فشلت القومية العربية في ترجمة رسالتها الافتراضية في توحيد العرب بوطن مشترك، أو فخر مشترك، فيما نجحت الحكومات العربية في توحيد مشاعر العرب كافة على البؤس.
هذا ما تيقنت منه حين قرأت قصة مواطن عربي كتب عن تجربته مع إحدى الشركات الأجنبية، قصة عادية جداً قد لا يصح وصفها بالقصة في الطرف المتحضر من العالم، مجرد حدث عادي جداً يتلخص بأن الرجل طلب مجموعة من أقلام مخصصة للخط من تلك الشركة وقام بتسديد التكلفة، لكن حين وصل المنتج كان بأحد الأقلام عيب مصنعي طفيف، وقد وصف العيب بأنه ملحوظ لكن يمكن التعامل معه ببعض الجهد.
يقول إنه لفرط فرحته بوصول الأقلام قرر التغاضي عن خطأ الشركة، وأن ينسب المشكلة لسوء حظه، لكن إبليس – كما قال – هو الذي وسوس له ليخاطب الشركة ففعل وأرسل للشركة بريداً إلكترونياً موضحاً لهم مدى الضرر الذي سيحدث لعمله نتيجة لهذا الخطأ؛ لأن إعادة المنتج لهم واستبدال القلم المعطوب يعني خسارة مزيد من الوقت، وبالتالي ضرر أكبر له في عمله.
ثم يستطرد بعد ذلك بأنه قد جرب على سبيل التمثيل أن يفرغ غضبه على أولئك الأوغاد في الشركة عبر البريد، دون أن يعترف لهم بأنه كان مؤمناً تماماً بأن ما حصل عليه هو غاية المراد من رب العباد في تلك اللحظة، وأنه لم يتوقع أن يصله المنتج الذي طلبه بهذه السرعة، ثم اعترف بأنه شعر قليلاً بعد إرسال ذلك البريد بأنه ارتكب خطيئة البطر؛ التي قد تكون نتائجها كارثية عليه بالنظر لسوء حظه الجيني كما يعتقد!
يكمل قصته بأنه بعد أن أرسل الرسالة نام لعدة ساعات ثم استيقظ ليجد رسالة اعتذار من خدمة العملاء بالشركة، وأنهم سيتحملون مسؤولية ما حدث له كعميل من ضرر، وأن الشركة فور وصول رسالته قد بادرت بإرسال المنتج للمرة الثانية بطرد خاص سيصله خلال ثلاثة أيام على الأكثر، مع حرصهم على التأكد من جودته، وأن التكاليف كاملة للأقلام السابقة والجديدة ستتحملها الشركة وسيعيدون له قيمة ما دفعه كاعتذار منهم على ما تسببوا به من ضرر.
انتهت القصة لكن وجعه الحقيقي لم ينته، ظل منساباً على الصفحة وهو يقول إنه لم يشعر قط بأن له قيمة كما أشعرته تلك الشركة بتعاملها معه، كانت فرحته بحصوله على العناية اللائقة به كإنسان أكثر من فرحته بحل المشكلة ذاتها، قال إنه لفرط سروره بذلك البريد سيقوم بكتابته باستخدام القلم المعطوب كتحية تقدير للشركة وسيضعه في لوحة تتوسط حجرته ليتذكر أن هناك مَنْ يرى أنه جدير باحترام وقته وعمله و"إنسانيته".
لقد استوقفتني مفردة إنسان التي استخدمها كثيراً، لم يقل العميل أو المشتري قال بالحرف الواحد: عاملوني كإنسان واعتذروا لي فوق ذلك.
لم يتنبه بأن ثمة خطأ قد وقع فعلاً، وأنه يستحق ذلك التعويض والاعتذار، لم يتطرق لإحساسه بأنه يستحق أن يعترض إلا على سبيل المزاح، حين وصف اعتراضه بأنه لم يكن إلا نزغة من إبليس اللعين، ولا أعلم حقيقة إن كان سيظل يردد ذلك على سبيل المزاح أو أنه سيتحول لضلالة فيما بعد حين تختلط عليه النزغات الحقوقية مع نزغات أخرى شيطانية فعلاً!
مسألة طلب منتج واستبداله مرة أخرى لا يمكن أن تتحول إلى قصة ذات أبعاد إنسانية إلا في هذه البقعة البائسة من الكرة الأرضية حيث نقيم نحن، إخوة في النحس الجيني من المحيط إلى الخليج.
أي بؤس أوصلونا له حتى بات أحدنا يتشبث ببارقة احترام من شركة تجارية تعلم بأن استمرارها بالمنافسة يبدأ وينتهي بالعناية بالعملاء؟
حين يتفرغ رجل متعلم ومتخصص من دولة عربية لها ثقلها التاريخي والحضاري، ليكتب تجربته مع شركة تجارية، وينشرها كقصة جديرة بالتوثيق، فهذا لا يعني أن الشركة استثناء وإنما يعني ببساطة أن البؤس في هذه البقعة البليدة من العالم كان استثنائياً جداً.
أن تكون عربياً يعني أن البؤس سيلتقطك ذات لحظة شئت أم أبيت، أن تكون عربياً يعني أن ليس ثمة شيء من الممكن أن يُشكل ضمانة كافية على ألّا تُعامل معاملة العرب!
إياك أن تعتقد أن مكانتك الرفيعة التي حققتها بنفسك أو ورثتها أو مُنحت لك ذات رضا من عِلْية القوم في بلدك قد تمنحك استثناءً يليق بمكانتك، ستظل عالقاً في فخ الإنتماء للعصبة الأكثر شغباً وخيبة، وما من شيء قد يرمم إحساسك بالغبن، حين تضعك الحياة بمواجهة مع واقع حاولت بكل ما تملك من إخلاص أن تساعد في تغييره نحو الأفضل، ستظل مرتبطاً بهذا الواقع، وستتحمل تلك التركة الثقيلة، من الجهل، والخيبة، التي خلفها لك أسلافك القوميين!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.