كل المصلحين الاجتماعيين من أنبياء لعلماء لفلاسفة لمفكرين، كلهم كانوا غرباء وأغلبهم كان ضحية فكرته، كان كبش فداء التغيير، الحرية والسيرورة! إن محمداً (صل الله عليه وسلم) كمثال لنبي، مفكّر، فيلسوف، قائد وحاكم دولة أحدث تغييراً هائلاً في سيرورة التاريخ، غيّر المسار العام للتاريخ كما لم يكن يخطر بالحسبان، تخيل معي كيف كانت ستكون الحياة في شبه الجزيرة العربية؟ كيف كان سيكون العرب لو لم يُبعث محمد (صل الله عليه وسلم)؟
لَمَا كان على الأرجح ما يُسمى الحضارة العربية ولا التاريخ ولا العلوم والاختراعات التي حدثت بعد التغيير! لما كان للعرب مكان في التاريخ ولا الجغرافيا! كيف لراعٍ أو تاجر أن يغيّر كل هذا التغيير الهائل في التاريخ، أن يصنع فلسفة حياة، حضارة ودولة عملاقة من لا شيء؟
كل هذه التساؤلات لا يمكن أن يوجد لها من الأجوبة سوى "العزيمة والإرادة"، فما كان الله أن يضع التغيير في غير أهله.
موسى وبوذا وعيسى والحسين وجاليليو ونيوتن وآينشتاين ومارتن لوثر.. وغيرهم الكثير.. كل هؤلاء كانت لهم عزائم وإرادة تزحزح الجبال وتزلزل الأرض، لكن مع ذلك، ألم يكونوا كلهم غرباء؟ بلى، فكلهم كانوا غرباء في مرحلة من حياتهم، وكلهم تم الاستهزاء والاستهتار بهم؛ لأنهم جاءوا بغير السائد، وخرجوا عن مسار القطيع، لكن ذلك لم يكن رادعاً لهم عن خلق المسار الجديد، لتغيير مسار التاريخ إلى الأفضل، كلهم عاشوا تلك المرحلة من العزلة والانطواء عن المجتمع، حتى فكروا وتفكروا، حينها جعل الله فيهم التغيير ووضع فيهم الإرادة، إرادة التغيير.
لقد حضّ الله تعالى على ذلك في محكم كتابه (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) [سبأ:46]، هنا الله تعالى يخبرنا صراحة في أي حال وتحت أي وضع بمجرد أن نرى المجتمع ينصاع نحو الفساد أو الهلاك ويخرج عن المسار السليم، أن ننعزل على شاكلة أفراد كل لوحده، أو مثنى، ونتفكر، ثم نعود من جديد بالتغيير، نعود لنقوِّم الاعوجاج.
كانت الأوضاع في جنوب شبه الجزيرة العربية مزرية، القبلية والعنصرية والرق وعدم المساواة، كان القوي يأكل الضعيف وكانت النساء تسبى وتباع في أسواق النخاسة مع العبيد، كان الوضع لا يطاق والناس يعيشون في الجحيم إلا قلة من المترفين، كان لابد من حدوث تغيير وقلب الموازين وطرح أيديولوجيا شاملة جامعة، وهو ما حدث.
أتى محمد (صل الله عليه وسلم) بأيديولوجيا تغطي مفاهيم الدولة والشعب والأمة والقومية والأخلاق والقيم والعقيدة والمساواة والعدالة والحرية، لكن قبل كل ذلك، كان لابد من الثورة على الوضع القائم وتغيير أفكار الناس وترسيخ أفكار الإنسانية والحضارة، وهو ما حدث، جاء الرسول بتغيير ثقافي جذري وقفزة معرفية هائلة، وطرح تشريعات حدودية حركية مواكبة للتطور الإنساني والزمني.
كانت البداية سراً، عبر ندوات واجتماعات سرية طليعية "في دار ابن الأرقم". ما فتئ الأمر حتى انطلقت الدعوة العلنية للفكر الجديد، لكن بشكل نضالي سلمي، ولم يمر المعارضون على ذلك مرور الكرام فجابهوا وواجهوا الأفكار والنضالات السلمية بالعنف والقتل والتنكيل، إلا أن محمداً (صل الله عليه وسلم) أمر أصحابه وأتباعه بعدم المواجهة بالمثل والإبقاء على النضال السلمي والمواجهة السلمية، فتطورت مواجهة الملأ للطرح الجديد للقمع والتعذيب النفسي والجسدي والحصار الاقتصادي وقطع صلة القرابة والقبيلة، لكن في المقابل تطورت أيضاً أساليب الدعوة لدى المؤمنين، فازدادت الندوات في سوق عكاظ وشملت دار الندوة وانتشرت الدعوة أكثر فأكثر باستخدام وسائل الإعلام المتوافرة آنذاك "الشعر".
جابه محمد بشكل أكثر تطوراً داخل دائرة القيم الأخلاقية باستخدام التكتيكات السياسية وفرض أمر الواقع على العدو، والاستعانة بالقوى الإقليمية كالحبشة، ثم فرض الهدنة والصلح على الأعداء دون التساهل والتقاعس عن المبدأ والفكرة، ثم البدء بالبحث عن حيز جغرافي يمكّن من إنشاء مجتمع مصغر يكون منطلق انتشار الفكر الجديد.
وكانت يثرب هي المكان المنشود بعد اعتناق قبائلها للفكر الجديد، حينها وحينها فقط أصبح من الممكن المجابهة عسكرياً بعد سنين من الأذى والتعرض للقتل والتنكيل والحصار وكانت المجابهات العسكرية تدخل في نطاق القيم الإنسانية من عدم سبي النساء والأطفال وعدم التعرض لرجال الدين والمتعبدين وعدم السرقة ولا الاعتداء على غير المحارب وعدم الإفساد في أرض العدو.
أسس محمد النبي (صلى الله عليه وسلم) جيشاً منظماً ووضع قادة عسكرية، وأسس دولة مدنية وحول اسم يثرب للمدينة، وأسس أول عقد اجتماعي بين المدينيين (سكان المدينة) يحفظ لكلٍّ حقوقه ويفرض عليه واجباته مع احترام عقيدة كل شخص وآرائه وأفكاره، ثم بدأ بعد ذلك بإنشاء وخلق علاقات دولية مع الملوك والدول المجاورة، ثم الحفاظ على وحدة الأرض الجغرافية وحاميتها من كل عدو خارجي، فانطلق محمد (صل الله عليه وسلم) على رأس جيش نحو الروم في حرب تبوك لردعهم عن الوصول للمدينة.
بعد استقرار الأمور في المدينة، أصبحت المدينة بشكل أكثر إيضاحاً موطناً ودولة للرسول محمد (صل الله عليه وسلم) وأتباعه من المهاجرين والأنصار سكان المدينة الأصليين إلى جنب اتباعه فكرياً ولم يتبعه عقائدياً من سكان المدينة، وأصبح محمد القائد الأعلى للدولة وحاكمها وولى القرارات التكتيكية في الحروب ورد العدوان للسلطة العسكرية التي ولّى عليها أشخاصاً مناسبين لها، ولم يتولّ القيادة العسكرية إلا في الأمور الكبيرة، وعزل السلطة السياسية عن المؤسسة العسكرية، وجعل الشورى أداة للديمقراطية.
تغيرت الأمور بشكل هائل في المدينة، وبدأ ترسيخ مفاهيم كالحرية والمساواة وفرض حقوق المرأة ضمن الظروف الموضوعية السائدة في العالم آنذاك، ثم بداية وضع اللبنة الأولى لإلغاء الرق وفقاً للعلاقات الإنتاجية ليتم إلغاؤه شيئاً فشيئاً مع العلم أن إلغاء وسيلة أساسية في وسائل الإنتاج تحدث كوارث اقتصادية هائلة.
حاول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قدر الإمكان تفادي الحروب، وكان اللجوء للأساليب القتالية هو آخر الحلول عنده، فكان يُبرم معاهدات مع العدو "كصلح الحديبية"، مع تفادي بناء الدولة على الحقد والانتقام فكان يعفو ويصفح عن الأعداء عند النصر "طلقاء مكة".
إن ما ننتظره من دول الربيع العربي أن تمشي على خطوات الثورة النبوية، وعدم إغفال الثورة الفكرية وتجديد الخطاب الفكري، والسياسي والديني، فما تنجح الثورة بالنصر العسكري، بل بالنصر في كافة الميادين. ولا نغفل أن أول ما بدأت به الثورة النبوية هو طرح أفكار إنسانية جديدة وترسيخها في عقول الناس، وأخيراً التاريخ لا يمكن أن يكون إلا كما كان!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.