عندما كنت صغيراً، كانت التوجيهات تتهافت من كل ناحية لقلب النعل إن كان أسفله مواجهاً للسماء.
أمتثل صاغراً للأوامر مرات كثيرة، وأحياناً أخرى أتجاهلها لعدم فهم المغزى منها، وما السبب الداعي لاستنفار القوم من حولي نتيجة نعل ذنبه الوحيد أنه مقلوب رأساً على عقب؟! أواجههم بعيون ملأها الاستفهام، وبضحكات خجولة مستخفة من ثورتهم. وتلك المواجهة الصامتة كانت نادرة أمام الطاغي من فيض الطاعة المبذولة من طرفي، لا فهماً ولكن إذعاناً للسيل الجارف من الصيحات. أتجه نحو النعل وأعدله مراقباً للهدوء الذي استتب بعدها. أرمقه وقد قلب، وأنظر ساهماً شاخصاً نحو السماء منتظراً تفسيراً ما يأتيني منها بعد أن فقدته من الكبار. لا أجد سوى الصمت السمائي، وأعود لما انشغلت به آنفاً.
والقصة يا ليتها كانت محصورة بنعل مقلوب فقط، بل تتعداها لأفعال أخرى ما زلت حتى اليوم مستغرباً لها. فذاك أيضاً المقص المفتوح الذي اعتبروه نذير شؤم دون وجود ما يبرره من أسباب واضحة، وكذلك القطة السوداء إن أنت صادفتها مساءً على حين غرة، والماء الساخن إن أرقته ليلاً بلا اكتراث أو بسملة، ورشة ملح تذروها درءاً لمقاصد النفوس الشريرة..
الأمثلة كثيرة وكلها عالقة في الذهن يجابهها ذهول وصمت من عدم منطقيتها، وهذا الكلام أسوقه بعد أن ترعرعت مسلحاً باستفسارات بدأتْ منذ الصغر. كنت أظنها عادات ومعتقدات موجودة في بيتي فقط، كبرت وذهبت إلى المدرسة وإذا بي أسمعها أيضاً من معلمي. نخلع الأحذية، ونبدأ بالاصطفاف استعداداً للصلاة، وعلامات الخشية تبدو على الوجوه. يقطعها صيحة من وسط الحشود أن اقلبوا ما كان وجهه للسماء، فأهرول نحوه طالباً الغفران مستبقاً وقوع ويلات العذاب. لا أذكر نصائح وجوب ترتيبها وتنظيمها بعد خلعها بقدر أن أبقي أسفلها مواجهاً للأرض.
عللت ذلك حينئذ أن الشياطين لا بد وأنها تقبع في جوف الكوكب، وفعلتي تلك تحررها من قيدها وتطلق لها العنان. أفضيت سري وتساؤلاتي لأحد أصدقاء الطفولة، واتسع فمه دهشة لحظتها. فهو كان منهياً بالمثل عن ترك النعل مقلوباً. تشاركنا في نظرة تأمل للهالة التي تحيطه، وقد اعتقدنا جازمين أن السر لا بد وأنه أعظم من خطر شياطين غير مرئية. كلما زاد عداد العمر، كنت أكتشف أن نطاق ذلك الاعتقاد أوسع من حدود عائلتي، ومنتشر خلف باب بيتي الدافئ.
لعل الفنان الأسباني (غويا) تعرض لنفس الظنون حينما رسم لوحته المشهورة "نوم العقل ينتج الوحوش" في عام 1799. يظهر فيها رجلاً نائماً، رأسه متكئ على طاولة، والخفافيش وطائر البوم تحوم من حوله. في ذاك الأوان، ارتبطت الخفافيش بمعاني الظلام والشياطين. كما أن البوم ما كان رمزاً للحكمة كما بات اليوم في معتقداتهم. فحسب فهم (غويا)، أراد أن يرمي إلى أن الوحوش تتكاثر عندما تخلد العقول إلى السبات، وصوتها يعلو عندما تنخفض وتيرة التفكير في صلب الأمور ومآلاتها.
والحال مشابه نوعاً ما للوحة (الطفل الباكي) المشهورة التي رسمها الفنان الإيطالي (جيوفاني براغولين) في ثلاثينيات المئوية الفائتة. صادف طفلاً حزيناً في الطريق، ورأى في وجهه تعبيرات دسمة تصلح أن تكون لوحة فنية. القصة بدأت عندما انتهى من رسمها، وقد احترق مرسمه عن بكرة أبيه إلا تلك اللوحة. تكررت حوادث الحرق في الأماكن التي تعرض اللوحة، ونجاتها لاحقاً من نهم النيران. فاتجه العامة إلى الاعتقاد أن اللوحة مسكونة بشرار المخلوقات، ولا بد أن علامات الظلام السوداء ملازمة لها.
بعد التحقيقات في تلك الحوادث والسر الغريب بشأنها، اكتشفوا أن سبب عدم حرقها هو طليها بمواد مقاومة للحريق، وأبعد ما يكون عن شيطان ما يعيش في زواياها.
الاختلاف بين الوصايا التي تم تلقينها لي والقصص الآنفة الذكر، فجوة زمانية ومكانية ليست بالهينة، فما أعيش أثره اليوم عاشه من سلف قبل عقود. كنت أشعر بكرامة غير مستحقة مصروفة لحذاء، وربما لها جذور ضاربة في ثقافتنا من زمن كليب في حرب البسوس وشسع نعله، والشسع هو رباط الحذاء. أراد المهلهل ساعتها الاستخفاف بدم من قتل، فقال قولته المشهورة: "بشسع نعل كليب"، أي أن دمه لا يساوي رباط نعل أخيه كليب.
تبعه بعد قرون الصحافي العراقي منتظر الزيدي، ورمى هو الآخر حذاءه في وجه الرئيس الأميركي جورج بوش بغية إهانته أمام أنظار العالم. فالحذاء نقلبه يوماً، ونرميه يوماً، وهذه الاعتبارات لا تجد لها ملجأً سوى عقائد الناس المتفاوتة؛ إلا أنها تتشارك في تعظيم قدر ما كان في القدم بطريقة أو بأخرى. مؤخراً، صرت أتركه مقلوباً كلما استطعت محاولاً الانتصار ولو مرة على تميمة النعل المقلوب!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.