في الوقت الذي يتراجع فيه مقاتلو تنظيم داعش بالعراق في مواجهة عمليات هجومية تقودها الولايات المتحدة، تتزايد مشاعر القلق بين المسؤولين الأميركيين ومسؤولي الأمم المتحدة من الأوضاع في الأماكن التي يتراجع عنها التنظيم.
فلماذا هذا التخوّف الذي يبدو للبعض أنه يؤكد نظرية المؤامرة التي يروّجها كثيرون في المنطقة العربية، خاصة من أنصار الرئيس السوري بشار الأسد وإيران من أن واشنطن هي المحرك الخفي لـ"داعش".
ووفقاً لتقرير لوكالة رويترز يتخوّف المسؤولون الأميركيون والأمميون من تراخي الجهود الرامية لتحقيق الاستقرار في المناطق المحررة، الأمر الذي يخلق ظروفاً قد تجعل وجود المتطرفين يستمر من خلال العمل السري.
ويتمثل أحد المخاوف الرئيسية في عدم تخصيص ما يكفي من أموال لإعادة بناء الرمادي العاصمة المدمرة لمحافظة الأنبار الواقعة غرب العراق وغيرها من المدن بخلاف مدينة الموصل، ثاني كبرى مدن البلاد الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية التي تعد أكبر هدف في العراق للحملة التي تقودها الولايات المتحدة.
وقالت ليز جراند، المسؤولة الثانية بين مسؤولي الأمم المتحدة في العراق، لرويترز إن المنظمة الدولية تحتاج بصفة عاجلة إلى 400 مليون دولار من واشنطن وحلفائها لصندوق جديد لدعم إعادة بناء مدن مثل الرمادي التي لحق بها دمار واسع عندما استردتها قوات عراقية تدعمها الولايات المتحدة في ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٦.
وأضافت جراند: "نخشى أننا إذا لم نتحرك في هذا الاتجاه – بل ونتحرك بسرعة – فربما يتقوض ما يتحقق من تقدم في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" أو يضيع".
ومما يزيد من صعوبة تحقيق الاستقرار في المناطق المحررة ما يشهده العراق من خلافات سياسية شديدة وفساد وأزمة مالية متنامية والجهود المتقطعة التي تبذلها الحكومة العراقية لتحقيق المصالحة مع الأقلية السنية التي يستمد التنظيم الدعم منها.
وقال مسؤولون إن بعض كبار الضباط العسكريين الأميركيين يشعرون بالقلق من تراخي خطط إعادة البناء بعد الحرب وتخلّفها عن الجهود العسكرية المبذولة في ساحة القتال.
كم خسر "داعش" من أراضيه؟
ولا يزال تنظيم داعش أبعد ما يكون عن الهزيمة، فالتنظيم مازال يسيطر على "دولة الخلافة"، وأعلنت 8 جماعات مبايعته في أنحاء مختلفة من العالم، كما أنه قادر على تدبير هجمات دموية في الخارج مثل الهجمات التي أسفرت عن سقوط 32 قتيلاً في بروكسل يوم 22 مارس/آذار 2016.
لكن يبدو أن التنظيم يتقهقر ببطء في معقله الأساسي بالعراق وسوريا.
وتقدر شركة "آي.إتش.إٍس جينز" للتحليلات الدفاعية أن الجماعة خسرت 22% من أراضيها في آخر 15 شهراً.
أموال أكثر للحرب
وتفوق الأموال التي صرفتها واشنطن على الحرب ما أنفقته على إعادة البناء بدرجة كبيرة، وتقول وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إن تكاليف الحملة العسكرية بلغت 6.5 مليار دولار من 2014 حتى 29 فبراير/شباط 2016.
وقالت إميلي هورن، المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي، إن الولايات المتحدة ساهمت بمبلغ 15 مليون دولار في جهود تحقيق الاستقرار، وتبرعت بمبلغ 5 ملايين دولار للمساعدة في التخلص من المتفجرات في الرمادي، وقدمت للحكومة العراقية "دعماً مباشراً كبيراً للموازنة".
وأقر وزير الخارجية الأميركي جون كيري خلال وجوده في بغداد الأسبوع الماضي بضرورة تقديم المزيد من مساعدات إعادة البناء.
وقال كيري: "مع تحرير المزيد من الأراضي من داعش يتعين على المجتمع الدولي أن يزيد دعمه لعودة المدنيين سالمين طوعاً إلى ديارهم".
وأعلن كيري تقديم 155 مليون دولار إضافية كمساعدات للعراقيين النازحين عن بيوتهم.
وقال إن الرئيس الأميركي باراك أوباما يعتزم إثارة هذه المسألة في قمة تعقد مع زعماء دول الخليج العربية يوم 21 أبريل/نيسان.
كومة من الأنقاض
أوضح مسح مبدئي أجرته الأمم المتحدة شهر مارس/آذار 2016 أن المستشفى الرئيسي في الرمادي ومحطة القطارات وما يقرب من 2000 منزل و64 جسراً وجانباً كبيراً من شبكة الكهرباء تعرضت للتدمير في القتال. ولحقت أضرار بآلاف المباني الأخرى.
وفي الآونة الأخيرة، قال حميد الدليمي، محافظ الأنبار، إن نحو 3000 أسرة عادت إلى مناطق في المدينة تم تطهيرها لكن الظروف صعبة. ويتم ضخ المياه من نهر الفرات وتفتح بضعة متاجر أبوابها، لكنها تظل مفتوحة لمدة ساعتين فقط في اليوم.
وقال أب لثلاثة أطفال يُدعى أحمد صالح، وعمره 56 عاماً، إنه عاد ليجد بيته "كومة من الأنقاض" ولا يمكنه إعادة بنائه إلى أن توفر الحكومة المال.
وفي غياب أي مؤشرات عن الموعد الذي قد يحدث فيه ذلك قامت السلطات بإعادة توطينه هو وأسرته في بيت آخر، من المعتقد أن صاحبه لن يعود قبل فصل الصيف.
ويكسب صالح أقل من 15 دولاراً في اليوم من خلال أداء أعمال التنظيف والإصلاح في بيوت أخرى. ولا توجد مدارس مفتوحة لأطفاله، كما أنه لا يملك المال اللازم للعودة إلى مخيم للنازحين داخل العراق يقع خارج بغداد يقول إن ظروف المعيشة فيه أفضل.
ويقول مسؤولون بالإدارة الأميركية إنهم يعملون على المساعدة في تحقيق الاستقرار في العراق سياسياً واقتصادياً منذ بدء الحملة العسكرية على التنظيم في عام 2014.
وقال وزير الدفاع أشتون كارتر، أمس الاثنين 11 أبريل/نيسان 2016، إن "نجاح الحملة على الدولة الإسلامية في العراق يتوقف على ما يتحقق من تقدم سياسي واقتصادي.. على الصعيد الاقتصادي من المهم إصلاح ما حدث من دمار ونحن نتطلع لمساعدة العراقيين في ذلك".
15 مليار دولار و15 ألف مقاتل سُني
وسُئلت هورن، المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي، عن طلب الأمم المتحدة لمبلغ 400 مليون دولار فقالت إن الولايات المتحدة ترحب بتأسيس الصندوق الجديد "وستواصل قيادة المساعي الدولية لتمويل عمليات تحقيق الاستقرار". ولم تعلن الولايات المتحدة حتى الآن ما ستقدمه من مساهمة.
وقال المسؤولون الأميركيون إن واشنطن تضغط من أجل ترتيب يتم من خلال صندوق النقد الدولي، وقال رئيس بعثة الصندوق في العراق إنه قد يفتح الباب للحصول على تمويلات دولية قيمتها 15 مليار دولار. ويبلغ العجز في ميزانية العراق 20 مليار دولار بسبب انخفاض أسعار النفط.
وقد ساعدت واشنطن في تدريب 15 ألف مقاتل سُني يمثلون الآن جزءاً من قوات الأمن التابعة للحكومة العراقية.
لكن لم يحدث تحرك يُذكر في الإصلاحات السياسية الرامية للمصالحة مع الأقلية السنية التي دفع قمعها في ظل حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الآلاف من أفرادها للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية.
وما لم يحدث ذلك ويرى السنة أن بغداد تحاول مساعدتهم على العودة من أجل إعادة البناء، فإن الخبراء يقولون إن دعم المتشددين سيستمر.
وقال كينيث بولاك، المسؤول السابق في وكالة المخابرات المركزية والبيت الأبيض والذي يعمل الآن بمركز بروكنجز: "إذا لم تحدث المصالحة فسيعاود السنة الاتجاه لتنظيم الدولة الإسلامية".
وأضاف بولاك الذي قام الشهر الماضي بمهمة لتقصي الحقائق في العراق "هذا أمر لا مفر منه".
وقد هيمنت الولايات المتحدة عسكرياً على العراق من قبل، غير أن ثمار تلك الهيمنة تبددت.
ففي عام 2003 قرر الرئيس جورج دبليو بوش غزو العراق وأطاح بصدام حسين وحل جيشه دون أي خطة شاملة لتحقيق الاستقرار بعد الحرب. وكانت النتيجة حرباً أهلية.
إعادة البناء تزداد صعوبة
قالت ليز جراند، نائبة الممثل الخاص لبعثة مساعدات الأمم المتحدة في العراق، إن التمويل الدولي لإعادة بناء ما دمّره تنظيم الدولة الإسلامية من مدن كان دائماً محدوداً.
وأضافت: "هذا يعني أنه كان علينا أن نأتي بنموذج يمكن تنفيذه بسرعة وبكلفة منخفضة للغاية".
وقد ساهم مانحون دوليون بمبلغ 100 مليون دولار لصندوق أولي لإحداث طفرة في الاقتصاد المحلي وإعادة الكهرباء والمياه وإعادة فتح المتاجر والمدارس.
وقالت جراند إن هذا النموذج نجح في تكريت أول مدينة كبرى يتم استعادتها من تنظيم الدولة الإسلامية في مارس/آذار من عام 2015.
وبعد تأجيلات في البداية عاد معظم السكان واستؤنف العمل بالمرافق وأعيد فتح الجامعة. وبلغ إجمالي حجم الإنفاق في هذا الصدد 8.3 مليون دولار.
لكن الرمادي التي كان عدد سكانها يبلغ 500 ألف نسمة قبل المعارك الأخيرة تمثل تحدياً أكبر بكثير.
وقالت جراند: "جانب كبير من الدمار الذي يحدث في المناطق التي يتم تحريرها يفوق بكثير افتراضاتنا الأصلية".
ومن الممكن أن يتبين أن إعادة الأوضاع إلى طبيعتها في الموصل التي بلغ عدد سكانها نحو مليوني نسمة قبل سقوطها في أيدي مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية أكثر صعوبة بكثير.
وستكشف الأيام عما إذا كان التنظيم سيتحصن لخوض معركة ضارية أم سيواجه انتفاضة داخلية تدفع المقاتلين للهرب ما يجنب المدينة دماراً واسعاً.
وقال مسؤولون حاليون وسابقون إنه إذا تعرض التنظيم لهزيمة عسكرية فسيلجأ على الأرجح لأساليب حرب العصابات التي لجأ إليها سابقه تنظيم القاعدة في العراق.
وقال مسؤول بوزارة الدفاع الأميركية إن تنظيم القاعدة في العراق وقادته، منهم أبوبكر البغدادي رأس تنظيم الدولة الإسلامية: "استمر داخل العراق في العمل السري لسنوات، وما من سبب يمنعهم من تكرار ذلك مرة أخرى".