ضجت شبكة الإنترنت بالأمس بنشر أكبر فضيحة في تاريخ الصحافة الاستقصائية عرفت باسم وثائق بنما، وهي كمية ضخمة من الوثائق والمستندات السرية التي تكشف تورط شخصيات كبيرة ورؤوساء وحكام دول وسياسيين في الأعمال غير المشروعة واستخدام شركات الظل (الأوف شور) التي تدار من الخارج لإخفاء ثرواتهم أو القيام بتلك الأعمال.
لن ندخل في تفاصيل تلك الوثائق بل سنركز على الجانب التقني للموضوع أكثر وهو محط اهتمامنا في عالم التقنية.
بفضل الإنترنت ومواقع الويب يمكن للصحافة الاستقصائية اليوم عرض نتائج تحقيقاتها بصورة أفضل تتيح لجمهور المستخدمين معرفة أدق التفاصيل وبشكل موثق وبطريقة عرض ملائمة أكثر مما كان عليه الحال قبل ظهور الإنترنت والتقنيات المتطورة.
لنقل إنك قبل 50 عاماً أنجزت تحقيقاً صحفيًّا يكشف تلاعبات وخفايا مسؤولين فاسدين، كيف ستعرض نتائج تحقيقك؟ على الأرجح ستطبعه على الورق سواء في صحيفة أو كتاب، وإن كان لديك تمويل جيد قد تنجز فيلماً وثائقيًّا عنه.
هذه الطريقة القديمة بالعرض لن تساعدك على تقديم نتائج تحقيقك بشكل جيد. لن يمكن للمستخدم استعراض النتائج والتفاعل معها وتصنيفها كما يريد، بل سيحتم عليه أن يكتفي بالطريقة التي تعرضها أنت عليه.
اليوم بفضل الإنترنت ومواقع الويب يمكن نشر كمية ضخمة جدًّا من التسريبات وإتاحتها للجمهور بضغطة زر واحدة. يمكنهم ليس فقط الإطلاع عليها بل تصنيفها وعرضها كما يرغبون.
إن سألتك عن أضخم تسريب نشر على الإنترنت، فإنك قد تقول ويكيليكس الذي كان حجمه 1.7 غيغابايت حينها. هذا لا يمثل شيئاً أمام التسريب الذي ظهر للعلن بالأمس باسم "وثائق بنما".
تتضمن وثائق بنما مستندات عالية السرية حجمها 2.6 تيرابايت! نعم كما سمعت، تيرابايت! يصل عدد الوثائق إلى أكثر من 11.5 مليون وثيقة متنوعة ما بين رسائل بريد إلكتروني ومستندات قانونية وتفاصيل حسابات مصرفية وصور جوازات سفر وفواتير ومعلومات من قواعد البيانات وصور وملفات pdf وغيرها الكثير.
ليلة البارحة كانت صاخبة على موقع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين الذي نشر فقط 149 وثيقة من أصل 11.5 مليون وثيقة بالأمس وتسببت ببلبلة كبيرة أطاحت برئيس الوزراء في آيسلندا. ولعدة ساعات كان الموقع غير متاح؛ نظراً لحركة الزيارات الهائلة التي توجهت إليه بعد أن بدأ الإعلام يتحدث عن هذا التسريب.
خصص الموقع قسماً كاملاً لعرض وثائق بنما، وأفرد له عدة صفحات. هناك صفحة تمثل مقدمة عامة عن مشروع التحقيق وفيه الكثير من التفاصيل والمؤشرات البيانية والرسوم والمخططات التي تظهر بطريقة تفاعلية حية يمكن للمستخدم التفاعل معها بيانات مهمة عن موضوع التحقيق وكيفية تغييرها خلال 40 سنة ماضية يغطيها التحقيق.
بفضل مواقع الويب وتقنيات الويب الحديثة، يمكنك الآن إدراج رسم بياني تفاعلي وليس مجرد صورة للرسم البياني. يسمح الرسم التفاعلي للمستخدم بمتابعة التغييرات سنة بسنة، ومقارنة عدة مؤشرات ببعضها في أي لحظة يريدها.
إليكم بعض الأمثلة عن الرسم التفاعلي:
النمو في أعداد شركات الأوف شور (شركات تدار من الخارج تستخدم لإخفاء الأصول وتمويل عمليات غير مشروعة والتهرب الضريبي)
البحث عن الشركات المملوكة من قبل حاملي الأسهم (لا تحتاج هذه الشركات إلى تسجيل اسم مالك محدد وتكون الملكية بحسب من يحمل شهادات الأسهم، هذا النوع من الشركات يقدم سرية عالية لإخفاء أسماء أصحابها).
مقارنة سنوية لأعداد شركات الأوف شور التي يتم افتتاحها مع التي يتم إغلاقها
مقارنة الجنات الضريبية ومعدلات التوجه إليها (الجنة الضريبية هي دولة أو ولاية لا تفرض ضرائب على الثروات تستخدم للتهرب من الضرائب المحلية).
والقسم الأهم على موقع نشر التسريبات كان الشخصيات التي تتعلق بها التسريبات، وهناك طريقة سهلة لتصفحها بحسب البلد أو المنطقة. وبالدخول إلى أي شخصية تريدها تجد لمحة عامة عن أبرز نتائج التحقيق وبعض الوثائق المسربة التي تؤكد ادعاءهم، وكذلك هناك مخطط تفاعلي يعرض لك شبكة علاقات شخصية للقيام بالأعمال غير المشروعة مهما كان شكلها.
هنا صورة كمثال عن وزير الميزانية الفرنسي وشبكة تعامله مع شركات وشخصيات، وبالضغط على كل أيقونة تظهر التفاصيل المتاحة عنها وما الوثائق المتاحة كجوازات السفر وعقود تسجيل الشركة وحجم الحصة وغيرها. يبدو لا يسمح الموقع بتضمين شبكة العلاقات وتفاصيلها في مواقع خارجية، لكن يمكنك تصفحها والتفاعل معها على موقع نشر وثائق بنما. بالطبع هذا مثال بسيط عن علاقات ضيقة، هناك شخصيات لديها تشعب أكبر في العلاقات والشركات الوهمية والشخصيات التي تساعدها، بدون مواقع الويب وهذه التقنيات من العرض لن يمكن تقديم الصورة كاملة.
أختم بالإشارة إلى حجم الجهد المبذول في هذا العمل، ومع ذلك الحفاظ على سريته. استمر العمل على هذا التحقيق سنة كاملة عمل عليه حوالي 400 صحفي حول العالم وتعاونت 107 وسائل إعلامية مختلفة من 78 بلداً في تحليل الوثائق ونشر نتائجها. لا نعرف الكثير عن الآلية التي تم التواصل فيها ما بين كل هذه الأطراف الفاعلة في التحقيق، منذ بدء تسريب البيانات من قواعد شركة الخدمات القانونية Mossack Fonseca مروراً بإيصالها إلى صحيفة Suddeutsche Zeitung الألمانية التي بدأت التحقيق على هذا النطاق الكبير، والأهم هو الحفاظ على السرية حتى بدء الحديث الإعلامي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.