عن التحديث الاستعماري
مثّل تعثر مشروع الإصلاح العثماني الذي أشرنا إليه في التدوينة السابقة، جانباً مهمًّا من أزمة الدولة العربية الحديثة، إذ يعد فشلاً في تطوير مشروع ذاتي لمواجهة أزمة غياب الفاعلية والرشادة في مجتمعاتنا السياسية ونظمنا الاجتماعية، وكان البديل هو مشروع التحديث الاستعماري الذي مثّل الجانب الآخر من الأزمة، فقد افتقد إلى المشروعية -كونه فُرض قسراً على مجتمعات المنطقة ولم يكن بمجمله خياراً طوعيًّا لهم -وافتقد كذلك إلى الفاعلية- إذ إنه استنسخ من مشروع تحديث في سياق اجتماعي مختلف تماماً، وكان يستهدف بالأساس مصلحة المستعمر كما سنبين لاحقاً.
وقد امتدت الظاهرة الاستعمارية خلال نحو قرن من الزمان، لتشمل كافة دول الشرق الأوسط باستثناءات قليلة، ومرت هذه الظاهرة بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى، امتدت من عام 1830 إلى عام 1880م، وهي المرحلة التي كان الشكل الاستعماري الأبرز فيها هو اتفاقيات التجارة الحرة والامتيازات الأجنبية، حيث اهتمت القوى الاستعمارية في هذه المرحلة بعقد اتفاقيات تفتح الأسواق لمنتجاتها وتوفر مزايا تجارية لمواطنيها، وقد شهدت هذه المرحلة حالتين من الشكل الاستعماري الصريح: الجزائر من قِبل فرنسا 1831م، وعدن من قبل بريطانيا 1839م.
المرحلة الثانية، كانت مرحلة استعمارية صريحة بالاحتلال العسكري لدول المنطقة، والتدخل المباشر في إدارة شؤونها، واستغلال ثرواتها، وقد بدأت من 1880م وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد شهدت هذه الفترة الاحتلال الفرنسي لتونس 1881م، الاحتلال البريطاني لمصر 1882م، ثم الاحتلال الايطالي ليبيا 1911م، وتقسَّم المغرب بين فرنسا وأسبانيا في نفس العام.
وقد بدأت الموجة الثالثة من الاستعمار في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما قررت الدول الأوروبية أن تُجْهِزَ على الدولة العثمانية وتقتسم أراضيها في العراق والشام. ولكن نظراً للظرف الدولي كان الاستعمار تحت مسمى جديد هو الانتداب، حيث تتعهد سلطات الانتداب ظاهريًّا بالعمل على "تحضر" الشعوب الواقعة تحت سلطتها، وحمايتها، تحقيق الرفاهية لها، وتجهيزها للاستقلال.
ونتيجة لذلك، فقد تنوعت أنماط الاستعمار في الشرق الأوسط:
– فقد تمثلت أحياناً في عقد اتفاقيات للتجارة الحرة مقابل الحماية، في حين تترك السياسة الداخلية بيد الحكام المحليين، كما هي الحالة مع الأسر الحاكمة على الساحل الشرقي للخليج العربي.
– وأحياناً تتولى سلطات الاستعمار الحكم والإدارة في البلد المستعمر، لكن مع الحفاظ على المؤسسات السياسية القائمة، ودون تقويض عنيف للبنى الاجتماعية مثل الاحتلال البريطاني لمصر، أو الفرنسي للمغرب وتونس.
– ويعتبر الاحتلال الفرنسي للجزائر نموذجاً للاستعمار الأكثر جذرية، حيث يتم تقويض النظام السياسي والبنى الاجتماعية القائمة، وضم المستعمرة قسريًّا للبلد المستعمر، مع حركة استيطان واسعة للمواطنين بما يغير النمط الديموغرافي للبلد المستعمرة.
– أما الشكل الأكثر توغلاً من الاستعمار فهو ما قامت به بريطانيا وفرنسا من ترسيم الحدود للدول المستعمَرة، وهندسة نظمها السياسية، وتعيين ملوكها وحكامها، وذلك ما حدث على سبيل المثال بالنسبة للعراق والشام في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
وعلى الرغم من التباين الشديد في مدى تغول القوى الاستعمارية في إدارة شؤون دول الإقليم، إلا أن الدول الاستعمارية قد مارست نمطاً متقارباً من السياسات في المستعمرات التي حازتها، يتمثل في:
– تقوية الإدارة المركزية بهذه المستعمرات، وتحديث الجهاز البيروقراطي ليقوم بأدوار أولية مثل تحديد وحصر مواطني هذه المستعمرات، وإدارة الموارد وتقديم الخدمات بشيء من الفاعلية، وكذلك تقوية الأجهزة الأمنية لفرض النظام، وبسط القانون على المساحة التي تخضع لها.
– إيجاد حلفاء محليين من ملاك الأراضي، والنخب المدنية، وفي أحيان أخرى شيوخ القبائل ورؤساء الأسر، للاستعانة بهم في شؤون الإدارة والحكم، وتقديم بعض المزايا الاقتصادية لهم، في مقابل ضمان ولائهم، ودعمهم للسلطات الاستعمارية.
– تدعيم الأقليات العرقية والطائفية ضد الأغلبية (المسلمة السنية على الأغلب)، وفتح المجال أمام الإرساليات التبشيرية، واتباع سياسة "فرِّق تَسُْد".
– تطوير الأبنية الاقتصادية، وإنشاء البنوك المركزية، وربط اقتصاديات المستعمرات وعملاتها باقتصاديات وعملات المستعمِر بما يضمن استمرار التبعية والهيمنة الاقتصادية.
ومن هنا يتضح أن عملية التحديث الاستعماري وميلاد أبنية الدولة العربية الحديثة (والمتمثلة في المؤسسات السياسية والاقتصادية والقضائية والتعليمية ونحوها) كانت عملية مشوِّهة، فقد استمرت تبعات هذه السياسات الاستعمارية حتى بعد الاستقلال، حيث اندلعت العديد من النزاعات الحدودية نتيجة سوء الترسيم المتعمد لحدود الدول وعدم مراعاتها للمجتمعات التقليدية وامتداداتها في الإقليم، واستمرت الانقسامات الثقافية بين النخب المستغربة المدنية وتلك الأصولية المحافظة، واستعرت الصراعات الطائفية والعرقية داخل دول الإقليم كنتيجة للتمييز الإيجابي الذي تمتعت به الأقليات في ظل المستعمر، كما استمرت التبعية الاقتصادية بأشكال مختلفة بين المستعمرات السابقة والقوى الاستعمارية بما أعاق الاستقلال الوطني، وأثر سلباً على التنمية الاقتصادية بهذه الدول.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.