يا إلهي.. يا خالق الكون من عدم.. يا من تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل.. وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، وترزق من تشاء بغير حساب!
يرينا الله في دهره آيات!!
كتبت مقالة في يناير 2013 بعنوان (ثوّار ما بعد الثورة)، وهذا رابطها لمن يحب قراءتها (الرابط).. وصفت فيها فئة من المعارضين الجدد الذين ملأوا الحياة صخبا (بعد عزل مبارك)، وأصبحوا يزايدون على الجميع، ويخونون الجميع، وهُمْ في الحقيقة لم يمارسوا السياسة، ولم يعارضوا طوال حياتهم، عمليا أو حتى نظريا.
لقد قاومنا ثوّار ما بعد الثورة، ويبدو أنه قد كُتِبَ علينا اليوم أن نقاوم صنفا جديدا من الناس.. إنهم (ثوّار ما بعد الانقلاب)!
خلقهم الله للمزايدة، ولا تجد لدى أحدهم رؤية فكرية لأي موضوع في الحياة، يستهلكون أفكار الآخرين (وهي أفكار سطحية أيضا)، مع إضافة توابل الكلام اللاذعة مثل السب والتشويه، أو بإضافة بعض المحسنات غير البديعية السمجة، مثل السخرية والاستهزاء.
أخطاؤهم اللغوية تنم عن جهل فاضح، وسطحية أفكارهم تدل على رؤوس خاوية، وفجرهم في الخصومة يشير إلى أمراض قلوب لا يعلمها إلا الله.
تحاول أن تُجري معهم حوارا فلا ترى إلا أطفالا متشاكسين، وتحاول أن تحكي لهم قصة هذه الثورة (لأن غالبيتهم لم يحضروها، ولم يشاركوا فيها أصلا) فتراهم يريدون طيَّ هذه الصفحة سريعا، لكي يصلوا إلى الفصل الذي أصبحوا فيه في الصدارة.
من أين لك هذا يا نكرة؟ من أنت كي تزايد على كل هؤلاء؟
* * *
تراهم يقولون نحن الثوّار وإلا فلا، ونحن رواة تاريخ الثورة الثقات ولا أحد غيرنا، ونحن أهل الجرح والتعديل وسوانا مخروم المروءة.. فإذا قلت له إن فلانا له سابقة نضال، تراهم يشبهونه بمن خان الثورة ممن كان له سابقة جهاد، لكي يضعوا الجميع في سلة واحدة، فتراهم يصنفون أي إسلامي يختلف معهم بأنه من فصيلة حزب النور، وأي ليبرالي لا يعجبهم بأنه إبراهيم عيسى، وأي ناصري بأنه حمدين.. وإلخ
سيقول قائل: ومن هؤلاء الذين تدافع عنهم أنت؟
سأقول: أتحدث عن هؤلاء الذين لهم سبق معارضة وعمل سياسي، أو لهم سبق علم، أو جمعوا بين الأمرين، لقد أصبح الصامدون على كلمة الحق من هؤلاء قلة في العمل العام اليوم، وتخوينهم وسبهم ليس عملا حكيما أو وطنيا بالمرة.
* * *
ثوّار ما بعد الانقلاب، لم يُعرف لم دور في أي مرحلة من مراحل الثورة أو ما قبلها، ورغم ذلك ستجدهم لا همّ لهم إلا تشويه هؤلاء الذين يحاولون أن يُعملوا عقولهم، ويستثمروا أوقاتهم وجهودهم، من أجل الوصول لحل لمعضلة مصر العويصة.
وليس معنى ذلك أن ثوّار ما بعد الانقلاب كانوا معارضين، ولكن لم يكونوا من المشاهير.. الشهرة ليست معيارا أبدا، وأعرف شبابا كانوا في الصفوف الخلفية في عصر مبارك وما بعده، وأصبحوا في الصدارة اليوم، هؤلاء أنعم بهم وأكرم، كانوا ضمن المعارضين المخلصين، وهؤلاء هم جنود الثورة الذين بذلوا وضحوا في وقت كان للرفض عواقب، ولا عيب في التقدم من الصفوف الخلفية إلى الأمام، بل هو ما نطالب به، أن نفسح الصفوف الأمامية للشباب الذين خاضوا تجربة العمل السياسي.
أنا أتحدث عن أناس كانوا مشغولين بمصالحهم الخاصة طوال أعمارهم، وبعضهم كان مؤيدا لمبارك وابنه، بل إن بعضهم كان مؤيدا (شرسا) للحزب الوطني، وبعضهم صِلاتُهُ بمؤسسات الدولة تثير ألف علامة استفهام..
هؤلاء الذين لم يقولوا كلمة (لا) طوال أعمارهم، وغالبيتهم لم يشتركوا في ثورة يناير، وغالبيتهم بعد أن انضموا للحياة السياسية بعد الثورة كانوا إما مع العسكر تماما، وإما مع الإسلاميين تماما (بمنهجهم الإصلاحي الكامل).
واليوم.. يحاول هؤلاء أن يعلمونا معنى الثورة، وكيف نثور، ومن الثائر الحق، ومن الخائن المهادن، ومن التائب المقبولة توبته، ومن المنافق الشيطان الرجيم، ومن يستحق الرجم، ومن يستحق الجلد؟!
يتصرفون وكأنهم (مطاوعة) في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثوري!!
يتحدثون وكأنهم آلهة في السماء، أو أنبياء أوحي إليهم منهاج الثورة المبين، من فوق سبع سموات!
* * *
أقسم بالله العظيم الذي لا إله إلا هو، إنني لا أقصد أن أعصم أحدا من الخطأ بسبب سابقة جهاد، أو حتى بسبب صموده الآن في وجه الاستبداد، فبعض الصامدين في السجون اليوم يستحقون ألف لوم ولوم.
وبسبب تقصيرهم، سالت دماء وأزهقت أرواح، ووصلنا إلى ما وصلنا له اليوم، ولكني أٌقول إن منهج الصياح والسب والتخوين في هذا الظرف العصيب زاد عن الحد، كما أن تحجر العقول على مواقف وأفكار بعينها رغم تغير الوضع السياسي محليا وإقليميا ودوليا أصبح أمرا بلا مبرر، ولا يمكن السكوت عليه.
* * *
إن من واجب الثوري الحقيقي أن يقاوم السلطة المستبدة، وأن يدفع ثمن ذلك، ومن واجبه أيضا أن يقاوم الاستبداد باسم الجماهير، وأن لا يساير من يحركون الغوغاء، وأن يقول كلمة الحق حتى إذا لم تعجب كثيرا من الناس الذي يسيرون مسرنمين خلف أفكار تجاوزها الزمن، وأن يدفع ثمن ذلك أيضا.
* * *
لقد حاول بعض المخلصين طرح أفكار للنقاش، فرأينا البعض تصرف مثل أهل الجاهلية، فرموهم بكل النقائص قائلين: "..إنا وجدنا آباءنا على أمة وإِنا على آثارِهم مهتدون"، وأسوأ ما في الأمر أنهم يشوهون أناسا كانوا يرونهم بالأمس أشرف الناس وأفضل الناس، تماما مثل أهل الجاهلية الذين سمّوا الرسول بالصادق الأمين، ثم قالوا عنه ساحر مجنون!
لقد تشكّك كثير من الناس في كثير من المخلصين بفضل ثوّار ما بعد الانقلاب، الذين لا عمل لهم إلا أن يقذفوا الحجارة على كل من يحاول أن يطرح فكرة للحوار.
* * *
في نهاية مقالتي التي كتبتها منذ ثلاث سنوات، قلت عن ثوّار ما بعد الثورة: (إنهم عبء وعار على هذه الثورة، وسيختفون قريبا، لأن الصراخ في الفراغ لن يحقق إنجازا على الأرض، ولكن ستتحقق الإنجازات بفضل الثوّارِ الحقيقيين الذين يخوضون الصعب من أجل مصر)!
وقد حدث ما قلته بالضبط، وثوّار ما بعد الانقلاب سيلقون المصير ذاته، فقد بدأت الحقائق تتضح للناس بالتدريج، وأصبح واضحا للعيان أن المزايدات التي لا أول لها ولا آخر لن تنصر ثورة، ولن تقيم دولة، ولن تفرج عن معتقل، ولن تحقق قصاصا، ولن تعيد منفيا، ولن تنصف مظلوما.
* * *
إن ما يفعله ثوّار ما بعد الانقلاب ليس أكثر من تعطيل للمسار الثوري، بحجة أن جميع المسارات المقترحة لا تحقق نصرا كاملا ساحقا، وهذا في عالم الواقع أمر في غاية السذاجة، والانتصارات التي تتحقق بالضربة القاضية نادرة في التاريخ البشري من أوله لآخره، وهم لا يرضيهم إلا نصر كامل مكتمل بالضربة القاضية، دون استعانة بأي أحد يختلف معهم، ولو حتى بشكل جزئي.
ستجد هؤلاء يتحدثون عن رغبتهم في تغيير كل شيء، وفي إبادة كل المخالفين (حتى لو كان خلافهم معه سطحيا جزئيا)، وفي تدمير سائر المؤسسات، وإذا تحدثت مع أحدهم عن أي تصوّر (عملي) لتحقيق هذه الأمنيات الكبيرة.. ستجد كلاما فارغا، بل في بعض الأحيان ستجد صمتا مطبقا، فهم يروجون للناس أحلاما لا يدركون هم أنفسهم متى يمكن أن تتحقق أو كيف!
* * *
ثوّار ما بعد الانقلاب ليسوا بالضرورة عملاء عند أجهزة التخابر، وليسوا بالضرورة مراءين يلهثون خلف الشهرة بأي ثمن، وليسوا دائما يقبضون ثمن ما يقولون من أجل نسب المشاهدة أو جذب (لايكات) الإعجاب، ولكنهم جميعا يجمعهم أمر واحد.. أنهم يخدمون استمرار الانقلاب (شعروا أو لم يشعروا)، لأنهم يخلقون بيئة عدائية تجاه أي فكرة، أو مسار، أو مبادرة من الممكن أن تكون بداية لنصر حقيقي.
* * *
لقد آن الأوان لكل من يرون أنفسهم ضمن معسكر الثورة المقاوم للانقلاب أن ينقوا صفوفهم، ليس بإقصاء عشوائي، بل بحسن إدارة الخلاف، وبعدم الانجرار خلف مزايدات رخيصة، وبعدم الخضوع لابتزازات رخيصة من بعض مجهولي النسب السياسي من ثوّار ما بعد الانقلاب.
إن النصر قريب.. وخصمنا أضعف من أن يصمد أمامنا إذا اتحدنا، ولكننا نقدم له النصر من حيث لا يحتسب، ونهديه هزائمنا على طبق من ذهب.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين..
عبدالرحمن يوسف
موقع إلكتروني: www.arahman.net
بريد إلكتروني: [email protected]
ملحوظة:
هذا المقال نشر للمرة الأولى على عربي 21
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.