وطني نشأت بأرضه ودرجت تحت سمائه
ومنحت صدري قوة بنسيمه وهوائه
ماء الحياة شربته لما ارتويت بمائه
وملأت جسمي عزة حين اغتذى بغذائه
سأظل جنديا له لأعيش تحت لوائه
فالحر يفدي أرضه وبلاده بدمائه
عشت 25 عاما من عمري أردد ما حفظناه من أناشيد المدرسة التي تعدد أسباب عشقنا للوطن، والوطن هنا يعني مصر، مصر حصرا وقصرا.. بقيت أردد تلك الكلمات، طفلا، حتى كبرت مقتنعا أن السماء تنقطع حيث تنتهي حدود الوطن.. كم كنت أشفق على هؤلاء المساكين الذين يعيشون خارج بلادي، أنى لهم شرب الماء الذي لن يجدونه إلا في مصر النيل، بلد الحضارة، أم الدنيا والآخرة!
لا أنكر أن الطفل في ذاكرتي كان مقتنعا تماما أننا نحب مصر لأننا عشنا في أرضها، وشربنا من مائها، درجنا تحت سمائها، وأكلنا من طعامها.. لكن عقل الطفل لم يفكر يوما ما الذي يحمله كل هذا من ميزات تجعل مصر أفضل من ألمانيا أو الصين أو الهندرواس!؟
لم يكن عقل الطفل يستوعب أن المأوى والمشرب والمأكل حقوق لا منح، وأن توفيرها لا يستعدى الاعتراف بالعبودية أو الجندية لحاكم غشوم؛ وفاءًأن منحنا حقوقنا من جيبه الخاص.. وأن توفيرها لا يحتاج كل تلك الأناشيد والأغاني!
حين تتحدث مع شاب مغربي أو روسي أي ملة من ملل الكون، هل سمعته من قبل "يحشر" بين كل عبارة وأخرى حديثا مفرطا عن مميزات بلاده الحانية التي يوفر له فيها الحاكم -حفظه الله- مكانا ينام فيه!؟
في أحد المنتديات قبل عالم الفيسبوك، كان الشبان المصريون يتحدثون عن أمنياتهم في السفر إلى أوروبا، إلا أن فتاة مغربية قالت في فتور إنها لا تفكر مطلقا في السفر خارج بلادها حاليا.. تداعى إليها المعلقون: لماذا!؟.. قالت: إن بلادها تضم كثيرا من مواطن الجمال، ربما تفكر في أن تزورها أولا قبل أن تتوسل الأسباب أن تجد ركوبة إلى بلاد الله الأخرى.
يومها أتذكر حوارا دار بيني وبينها ضمن التعليقات.. سألتها: إنك حقا تحبين المغرب!.. ردت: طبيعي، إنها جميلة.. سألتها: لكننا لم نجد لك قبل ذلك مشاركة تحكي شيئا عن هذا العشق الكبير.. وهنا قالت جوابها الصادم كدفقات الكهرباء: وهل كان من الضروري أن أفعل!؟
بدأ الصغير يومئذ يتنبه وهو يشاهد مبارات كأس العالم أنه لا يعرف جمهورا صرخ ذات يوم: "الهولنديون أهمة.. حيوية وعزم وهمة"، هكذا كأننا نعيش أسرى لحالة سعى حثيث لإثبات أننا جيدون صالحون، وأننا أخيرا نجحنا في الاختبار، وكسرنا عين العدو المتربص، حين أثبتنا أخيرا أننا لدينا "حيوية وعزم وهمة".
أعرف فتى فلسطينيا يضع كل يوم عشرات الصور التي يلتقطها لمزارات بلاده، لكنه لا يجد أي غضاضة في أن يشارك كل ما يجده في طريقه من معالم بلاد الله الأخرى، قبل أن يقول في اعتراف: مدينة شفشاون المغربية، أكثر مكان أتمنى زيارته هذا العام!.. هذا الأمر الذي لو فعله شابا مصريا لوجد عشرات التعليقات تضع له صور الأهرمات وأبي الهول كي تثبت له أن مصر أجمل أرض الله، وأحلى بلاد الدنيا!
علمونا أن النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم) كان يحب مكة لأنها وطنه، لأنه شرب من بئرها ونام في خيماتها.. هل كان هذا حقيقيا؟ .. هل كانوا يتغافلون أن النبي حين أبان سبب حبه لمكة قال: "والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وإلى قلبي"؟.. حب مكة في قلب محمد إذن جاء تاليا لمقامها عند الله، هذا سبب وجيه للغاية ليحب أرضها.. لكنه لم يجد حرجا في أن يحب يثرب أيضا، يحبها الحب الذي جعله يعيش فيها حياته حتى يدفن في أرضها!
كل بلاد الدنيا يتحدث نشيدها الوطني عن ميزاتها، عن أسباب الفخر بالانتماء إليها، لكن النشيد الوطني المصري وحده هو الذي يدخل في وصلة عراك مع بقية بلاد الله؛ سعيا لإثبات أننا "أحسن" من غيرنا!.. "مصر يا أم البلاد"، "وعلى كل العباد".. لكن كلمة واحدة عن ميزات هذه الرقعة من أرض الله، لا تجد!
ما الذي يميز مصر عن بقية بلاد الله؟ النيل؟ هل هي صدفة أن تكون أول محطات موسى ذكرا في القرآن بعد خروجه الأول من مصر، هي بئر الماء؟ ترى هل شهق موسى صدمة حين رآءهم ينهلون الماء دون أن يكون عندهم النيل العظيم: يا إلهى.. إنهم يشربون الماء مثلنا!؟
عاش موسى ( عليه السلام) في مصر كل حياته، يبدو أن إعلام فرعون ومدارسه النظامية كانت تغذى الشعور الوطني الزائف ذاته، حتى عند هؤلاء الغرباء من بنى إسرائيل.. ربما لهذا السبب كانت أهمية رحلة موسى إلى أرض مدين، كان على موسى أن يغادر مصر ليوقن أن أرض الله هي أرضه، في مدين كما في مصر، وكما ستكون فيما بعد في أرض بنى إسرائيل.
شاء الله أن يكتب للشاب خروجا من مصر، الله وحده يعلم كيف كان، لكن المفاجأة التي كانت بانتظاره هي أن الناس في بقية البلاد ينعمون بكل ما كنا نتغنى به من ميزات مصر، ينعمون به دون أن يهللوا له أو يرددون له أناشيد المدح والثناء!
الأكبر أننا خرجنا من مصر لنكتشف أنها لم تكن قبلة البلاد كما علمونا، كثير من الناس في شوارع بلاد الله الأخرى لا يعرفون ما هي مصر، حتى من يعرفها من العوام لا يستعدى ذكرها في خاطره سوى اسم ممثل شاهده ذات يوم في حافلة أو قاعة انتظار!
الشاهد، إذا قدر الله لك أن تخرج من مصر ذات يوم، أحب أن أخبرك حقيقة صادمة.. لن تسمع شهقات الانبهار حين تخبر جمعا من الشباب الغربي أنك مصري الجنسية، لن تلمع عيونهم وهم يقولون في ارتياع: "أوه ماي جود، يو آر إيجيبسيان!".. صدقني لن يحصل أي من هذا أبدا!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.